جاء الشاعر السوري الراحل نزار قباني (1923- 1998) إلى مصر سنة 1945، وكان عمره 22 عاما. وعندما غادرها بعد 3 سنوات، لم يكن يعلم أنه ارتبط بها حتى آخر لحظة في عمره.
على أرضها دشن شاعريته ورحلته كمثقف، وبجوار نيلها أيضا دارت معاركه الفكرية والشعرية. وفي مصر، وبعد رحيله، صار شعر نزار يغنى على كل لسان، وعندما غادر الوطن العربي ليعيش في منفاه الاختياري في أوروبا، لم تتركه مصر، ولم يتركها هو أيضا.
100 عام مرت على ميلاد نزار، وربع قرن على رحيله، ومازال، وهو بعيد يملأ الدنيا ويشغل الناس. ولد في دمشق، وتخرج سنة 1945 من كلية الحقوق بجامعتها، ثم التحق بوزارة الخارجية، وانتقل في العام ذاته إلى القاهرة دبلوماسيا في سفارة بلاده. حينئذ كانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والإذاعي في سنوات الملكية الأخيرة.
بستان الفكر والفن
في كتاب “قصتي مع الشعر” يقول نزار “كنت في الثانية والعشرين من عمري، يوم عيّنت ملحقا بالسفارة السورية في القاهرة، وحين ارتفعت الطائرة بي تاركة خلفها مآذن دمشق، وقبابها، وبساتينها، شعرتُ أنني أنفصل عن جاذبية الأرض، وجاذبية التاريخ”.
ويضيف “كانت القاهرة أول بعثة دبلوماسية أذهب إليها، وقضيت فيها ثلاث سنوات (1945–1948)، للقاهرة عليَّ فضل الربيع على الشجر، وبصمات يديها ترى واضحة على مجموعتي الشعرية الثانية (طفولة نهد) المطبوعة عام 1948”.
سكن نزار في أول عهده بالقاهرة في حي العباسية، ثم استقر في بيت بمنطقة بالقرب من المطار بحي مصر الجديدة، ويقول في حواره مع مفيد فوزي “سكنت في مصر الجديدة، وكان المترو هو وسيلة المواصلات من البيت في مصر الجديدة للسفارة والعكس، وأهم قصائد ديوان (طفولة نهد) كتبتها في المترو ذهابا وإيابا”.
ويقول في لقاء له بالتلفزيون المصري مع الشاعر فاروق شوشة “في هذا الزمن كانت القاهرة فردوسي، كنت شابا يافعا حين وصلت للقاهرة، شعرت أنني تحررت من جاذبية الأرض، في دمشق كنت محاصراً بالتقاليد، بالشعر الكلاسيكي”.
ويردف “كانت القاهرة في الأربعينيات عاصمة العواصم العربية، وكانت بستاناً للفكر والفن عزّ نظيره، وحين جئتها، كانت الأرض كلها مبدعة، وكان هناك العمالقة، طه حسين، العقاد، علي محمود طه، جنب أم كلثوم وعبد الوهاب، فماذا يحتاج شاب صغير يحمل البذرة الصغيرة من الشاعرية أكثر من هذا؟”.
ويتابع نزار “أسعدني أن أدخل الوسط الأدبي والفني والصحفي من أعرض أبوابه، وأعرف صفوة أعلامه، توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر المازني، محمد عبد الوهاب، كامل الشناوي، إبراهيم ناجي، أحمد رامي، محمد حسنين هيكل، والناقد أنور المعداوي”.
ويضيف “والحمد لله الذي أوحى لهم (يقصد المسؤولين بخارجية بلاده) أن يرسلوني إلى القاهرة بدلا من باريس، في 1945 كنت أفضل القاهرة ألف مرة على باريس”.
نزار ومصر الجديدة
وأدهش مناخ القاهرة الفني نزار، حيث كانت النجمة منيرة المهدية في تلك الأيام صاحبة “كازينو نزهة النفوس” بالأزبكية واشتهرت أغانيها مثل “أسمر ملك روحي” و”عصفوري يمه عصفوري”. كما كان لكازينو بديعة مصابني وأفلامها ومسرحياتها صدى كبير بين الأجانب والمصريين، وكانت أم كلثوم تحيي حفلاتها في المسارح الكبرى ودور السينما، أما المغني محمد عبد الوهاب فكان في أوج شهرته.
ويتحدث نزار عن مصر الجديدة في هذا الزمن ويقول “ضاحية مصر الجديدة في الأربعينيات كانت جميلة ونظيفة وحضارية كضاحية ويمبلدون البريطانية، والمترو في ذلك الزمان كان لا يقل رقيا وحضارة عن مصر الجديدة، ولأن بيتي كان يقع على آخر محطة قرب مطار القاهرة، فقد كنت أشعر بأنني الراكب الوحيد الذي يسير المترو من أجله، ولا أدري لماذا يذكرني مترو مصر الجديدة (أنشأه البارون إمبان مؤسس مصر الجديدة سنة 1910) بباصات لندن الجميلة التي كتبت أيضا في طوابقها العلوية عام 1952 واحدا من أهم دواويني الشعرية (قصائد)”.
تدشين شاعر
ومنذ أن جاء نزار إلى القاهرة احتضنه فيها الناقد أنور المعداوي، واصطحبه لحفلات المثقفين والفنانين، وصارت له صداقات كثيرة بنجوم مصر وأدبائها، ورحبت به مجلة “الرسالة” والطبقة المثقفة العليا في مصر التي رأت فيه شاعرا مجددا بالخطى الأولى للزلزال الشعري الذي سيكبر فيما بعد.
ويضيف نزار “في القاهرة تحررت من غباري الصحراوي، كنت بدويا يعلك الأفق، ويعلك الرمل، ويعلك الجوع، حين وصلت القاهرة وجدت النيل، وجدت الطمأنينة، وجدت الفكر المشتعل، وجدت العباقرة والعبقرية، وخلال ثلاث سنوات حتى 1948، كان عندي ديوان أعتبره مفترق طرق، من حيث لغته وصوره وألوانه وصياغته ومفرداته التي قال عنها المعداوي: هذا الكلام لم نسمعه من قبل”.
وبعد 3 سنوات من قدوم نزار للقاهرة صدر ديوانه الثاني “طفولة نهد” بعد ديوانه الأول “قالت لي السمراء” الذي صدر في دمشق عام 1944. ويعترف نزار بالفضل لـ 3 من نجوم الفكر والصحافة والنقد، هم: الحكيم، الشناوي، المعداوي الذي تحمس للشاعر الشاب.
وكتب المعداوي مقالا نقديا عن الديوان في مجلة “الرسالة” لكن بعد أن غير عنوان الديوان من “طفولة نهد” إلى “طفولة نهر” مما ترك في نفس نزار أثرا كبيرا “لذبح عنوان ديوانه من الوريد للوريد” كما قال.
كان عصراً يغلى بالأحداث، ومصر تقع في قلب الحدث، انتهت الحرب العالمية الثانية في أغسطس/آب 1945، ولكن مازالت هناك حرب فيتنام والحرب الهندية الصينية، وعلى المستوى العربي نالت كل من سوريا والأردن استقلالهما، ومع تصاعد الحرب الفلسطينية ضد الهجرة اليهودية تكونت الهيئة العليا لفلسطين.
عاصمة الثقافة العربية
عام 1946، وبعد أقل من سنة من مجيء نزار إلى مصر، كان شاهدا على انعقاد أول قمة عربية في مصر، حيث عقدت في مدينة أنشاص برئاسة الملك فاروق، في 28 مايو/أيار ولمدة يومين، ولأول مرة يتفق العرب في مؤتمر ويقرون عددا من القرارات كان من أهمها التمسك باستقلال فلسطين والتأكيد على عروبتها.
أما مصر فكانت تموج بالأحداث، وفى يوم 9 فبراير/شباط من العام ذاته خرج الطلبة في مظاهرة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) متوجهين إلى قصر عابدين، وقتل وجرح أكثر من 200 فرد وأطلق البعض على هذا الحادث اسم “مذبحة كوبري عباس” وامتدت الثورة الطلابية إلى أسيوط جنوبا والإسكندرية شمالا، وأسفرت تلك الأحداث عن 28 قتيلًا و432 جريحًا.
ومن الناحية الثقافية كانت القاهرة عامرة بالأحداث الثقافية، فبعد الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد الأفلام المصرية من 16 فيلما عام 1944 إلى 67 فيلما عام 1946، ولمع هذه الفترة عشرات المخرجين والممثلين مثل ليلى مراد، شادية، فاتن حمامة، ماجدة الصباحي، مريم فخر الدين، تحية كاريوكا، نادية لطفي، هند رستم، عمر الشريف، يحيى شاهين، إستيفان روستي، فريد شوقي، أحمد رمزي، صلاح ذو الفقار، أنور وجدي.
نجم في سماء القاهرة
وكما يقول الشاعر المصري أحمد الشهاوي للجزيرة نت “تعود نزار على مصر وتعودت مصر عليه، وصارت تعتبره واحدا من شعرائها ومن أولادها. ويعود الفضل للناقد أنور المعداوي وغيره من النقاد المصريين في ترسيم شعريته، وتدشينه كشاعر، ثم توزيعه في طبعات شعبية بخطوة عبقرية مشتركة بين الحاج محمد مدبولي ونزار قباني، حيث تمت طباعة مئات الألوف من دواوين نزار قباني وبيعها في نسخ شعبية بسعر نصف جنيه، ثم جاء الدور على الفن فقامت نجاة الصغيرة وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد بغناء قصائده، فكان الانتشار الأوسع لنزار قباني، وأصبح نزار للمصريين والعرب كما الماء والهواء”.
ويضيف الشهاوي “كان نزار قباني عندما يأتي إلى مصر كأشهر نجوم الفن المعروفين، وعندما تعقد له ندوة في معرض الكتاب، كان المعرض يومها يبدو كمظاهرة، والقاعة رغم ضخامتها تضيق بالجمهور فيقف خارجها أكثر مما في داخلها”.
هكذا صنعت مصر نزار على عينها، ووضعته في قلبها، وحفظته كأيقونة، وهو الذي جعل الشعر مثل “الخبر اليومي” ومثل قراءة الجريدة، بحسب الشهاوي.
القيثارة الحزينة
وتنتهي مدة خدمة نزار في السفارة السورية بالقاهرة، إلا أنه لم يبتعد عنها، في 1960 استضافته المذيعة سلوى حجازي في برنامجها الشهير “أهلا وسهلا” بل أدخلته الإذاعة المصرية في تجربة تمثيل مسلسل إذاعي كما جاء في مقال بصحيفة اليوم السابع المصرية.
وتعد تجربة نزار في التمثيل عام 1967 الوحيدة التي لم تتكرر في مسلسل إذاعي بعنوان “القيثارة الحزينة” والبطولة للمطربة نجاة الصغيرة التي وافقت على العمل، بعد محاولات المخرج السيد بدير بإقناعها مع نزار، خصوصا بعد نجاح عملهما معا “أيظن” و”ماذا أقول له؟”.
والعمل من تأليف الكاتب المصري يوسف السباعي والموسيقى لعبد الوهاب، وشارك في البطولة الشناوي وحسين الشربيني ونعيمة وصفي ووداد حمدي وعبد البديع العربي.
زلزال “الهوامش”
في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967، نشر نزار قصيدة “هوامش على دفتر النكسة” في مجلة “الآداب” أيضاً، ويقول في مطلعها:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر والهجاء والشتيمة
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة.
وعلى أثر ذلك بدأت حملة عنيفة ضد نزار بدأها الشاعر صالح جودت بمقال في مجلة “الكواكب” في 12 سبتمبر/أيلول 1967 بعنوان “امنعوا أغاني نزار”. وكتب جودت مقالاً آخر بعد أسبوع بعنوان “فضيحة نزار قباني” طالب فيه الإذاعات العربية بمقاطعة أغانيه، والمكتبات العربية بمصادرة دواوينه.
ومُنعت قصائده من التداول يومها ولم يُرفع الحظر إلا بواسطة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي يرحل فينعيه نزار في أشهر مراثيه “قتلناك يا آخر الأنبياء”.. وعندما كتب الحكيم كتابه “عودة الوعي” دخل في معركة من أجل الدفاع عن عبد الناصر.
الموت في غاردن سيتي
عاد نزار مجددا إلى مصر عام 1970 واشترى بيتا في غاردن سيتي، ونقل أوراق ابنه توفيق من الجامعة الأميركية ببيروت إلى كلية طب القصر العيني بالقاهرة تمهيدا للاستقرار بها، ويبقى توفيق في عناية صديقه يوسف إدريس بالقاهرة، وتمر السنوات ونزار ما بين بيروت والقاهرة، وتوفيق يكبر على عينه، وبعد عامين سيصبح طبيبا، ولكن تفاجئه الأقدار بما لا يحتمل، توفيق مريض بمرض نادر في القلب ولا علاج له، ويطير به إلى لندن في محاولة لإنقاذه، ولكن يموت توفيق.
وكانت وفاة ابنه في العاشر من أغسطس/آب 1973، وهو في السنة الخامسة بكلية الطب، ولم يتجاوز 23 من العمر.
تقول هدباء ابنة نزار عن حادثة موت شقيقها “كانت علاقة نزار بتوفيق خاصة جدا، ووفاته كانت من أكبر الضربات التي أثرت عليه، إن لم تكن أكبرها”.
ويرثيه نزار بقصيدة مبكية حزينة تستدر الدموع من الحجر بعنوان “إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني”. ويشهد موته ويحمله وحده في لندن ويقول:
لأي سماء نمد يدينا؟
ولا أحدا في شوارع لندن يبكي علينا..
أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات..
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر..
ويقول الشاعر الشهاوي للجزيرة نت “كان لنزار قباني بيت في غاردن سيتي بالقاهرة يقيم فيه عندما يزور المدينة، وكانت به مديرة منزل مصرية اسمها زينب بقيت في خدمته لآخر يوم في حياته، ولكن بعد موت توفيق تشاءم نزار من المنزل وقرر بيعه لأنه يذكره بسنوات إقامة ولده”.
معارك لا تنتهي
واندلعت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأخرجته الحرب من قوقعة الحزن لرحيل ولده ليعبر عن فرحه العربي، وتبدل حال الشاعر، واعتبر تاريخ الحرب هو تاريخ ميلاده، وكتب شعراً يمدح في السادات.
وتمر السنون، وتجري مياه كثيرة تحت الجسر، ويفاجئ الجميع بالسادات في الكنيست، ثم يعقد سلاما مع أعداء الأمس، ويكتب نزار قصيدته الشهيرة: “اليوميات السرية لبهية المصرية” ويمنع نزار من زيارة مصر وتمنع أغانيه وكتبه:
فكيف يا محمد.. يا أنور السادات
من أجل عبرانية عشقتها
تغدر بالأحياء والأموات
وتدعي أن النبي مات
وكيف.. يا.. أنور المأساة
تصبح إسرائيل في طنطا
وفي بنها وفي إيلات
الرحيل الحزين
وتتعقد الأمور باشتعال الحرب الأهلية في لبنان، وتقتل زوجته بلقيس الراوي بحادث نسف السفارة العراقية في بيروت في ديسمبر/كانون الأول 1981، ويلملم نزار أحزانه ويقرر الانتقال إلى القاهرة عام 1983، ولكن لم يتركه الصحفيون والكتاب، وهاجمه البعض بسبب قصيدته ضد السادات، واستمرت الحملة لعدة شهور شارك فيها موسى صبري وأنيس منصور وعدد آخر من الصحفيين المصريين.
على الجانب الآخر لم يعدم نزار من يدافع عنه، ومنهم هيكل والكاتب أحمد بهاء الدين وعبد الوهاب، ويوسف إدريس. وفي مثل هذا المناخ، غادر نزار القاهرة وانتقل للإقامة في سويسرا عام 1984، ثم لندن، ولكن القاهرة حتى رحيله لم تغادره لحظة، ولم ينسها يوما.