نجحت اليونان في مغادرة المنطقة الحمراء عكس التوقعات المتشائمة التي رافقت أزمتها المالية الحادة في 2012 وأعقبتها إصلاحات اقتصادية مؤلمة وسنوات من التقشف. وهي تدين بذلك أساسا إلى القطاع السياحي الحيوي الذي يعيش أزهى فترات انتعاشه إلى حد التخمة المنذرة بتداعيات سلبية على البنية التحتية والبيئة وكلفة المعيشة للسكان المحليين.
وفق بيانات حكومية استقطبت اليونان في 2023 أكثر من 32 مليون سائح، أي ما يعادل 3 أضعاف سكان البلاد، بينما فاقت العائدات 20.5 مليار دولار. ويتوقع أن ينمو إجمالي عدد السياح إلى نحو 40 مليون في عام 2024.
وللدلالة على الانتعاش الاقتصادي فقد زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات بلومبيرغ، بنسبة 7% مع استلام رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس لمنصبه في 2019، متقدما على اقتصادات كبرى في دول التكتل، بما في ذلك ألمانيا (1%)، وفرنسا (1%)، وإيطاليا (2%)، وإسبانيا (-2%) والمملكة المتحدة (1%) والولايات المتحدة (4%).
كما ألقت اليونان خلف ظهرها حقبة انهيار سوق العمل الذي عرف نسبة بطالة قياسية في مستوى 25% في ذروة الأزمة المالية، لتهبط إلى مستوى 10.8% في آخر تحديث في أبريل/نيسان 2024، بينما تجاوز معدل التوظيف وفق إحصائيات حكومية حاجز 4.3 ملايين في أبريل/نيسان من نفس العام وذلك للمرة الأولى منذ سبتمبر/أيلول 2009.
قال ميتسوتاكيس، الذي نجح في الفوز بفترة ولاية ثانية مدتها 4 سنوات في مايو/أيار”ستكون اليونان بحلول 2030 دولة مختلفة تماما”، لأننا “تمكنا من تحقيق مسار نمو مرتفع مع انضباط مالي في الوقت نفسه”.
سياحة في حالة إشباع
مع ما يقرب من 25% من الناتج المحلي الإجمالي (بما في ذلك الفوائد غير المباشرة) واستحواذها على واحدة من كل 4 وظائف، تعد السياحة الصناعة الرائدة في البلاد وذات الفضل الأول في هذه الطفرة باليونان، لكن هذه المكانة باتت مهددة.
تمثل جزيرة سانتوريني (جنوبي شرق اليونان) مفخرة السياحة في اليونان وأحد أشهر الوجهات السياحية في حوض المتوسط. وفي ظل الإقبال المكثف عليها باتت الجزيرة أمام مخاطر السياحة المفرطة، حيث بينت إحصاءات السلطات المحلية كما أوردها عمدة المدينة نيكوس زورزوس أن واحدا على الأقل من بين كل 4 سياح توافدوا على اليونان، زار “سانتوريني” في 2023.
والوضع ليس مختلفا في باقي الجزر اليونانية، فقط اعتادت جزيرة باروس (جنوبي شرق اليونان) التي تضم 10 آلاف ساكن على استقبال ما يقارب نصف مليون سائح سنويا، في حين استقطبت جزيرة ميكونوس (جونبا) التي تعد أيضا 10 آلاف ساكن، أكثر من مليوني سائح عام 2022. أما العاصمة أثينا فقد استقبلت أكثر من 7 ملايين سائح في عام 2023، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد في 2024، وفقا للخبراء، بنسبة 20%.
ويربط ملاحظون هذه الطفرة في تدفقات السياح بتراجع أداء القطاع السياحي القوي في الجارة تركيا. فإلى أي مدى يمكن أن يستقيم هذا الربط؟
هل استفادت اليونان من تراجع تركيا؟
بحسب ما نقلت “ترك برس” عن وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشك، فإن تركيا حققت أفضل أداء على الإطلاق في قطاع السياحة في عام 2023، مع تحقيق عائدات بقيمة 54.3 مليار دولار وتسجيل دخول 57.1 مليون سائح من بينهم ما يفوق 4 ملايين سائح عربي، أي بزيادة تقدر بـ11.1% عن العام السابق.
لكن هذا الأداء يظل موضع شكوك في 2024، بسبب بعض المؤشرات عن تراجع محتمل للقطاع ما عزز بشكل غير مباشر السياحة في اليونان المجاورة.
كشف “اتحاد وكالات السفر التركية”، في الأسبوع الأول من أغسطس/آب أن نسبة الإشغال في أماكن الإقامة الرخيصة في مناطق العطلات المعروفة مثل بودروم ومرماريس وفتحية وأنطاليا لا تتجاوز النصف، على الرغم من كونها موسم الذروة. وإجمالا سجلت نسبة إشغال الغرف في 2024 وحتى أغسطس/آب تراجعا بنسبة 15 إلى 20% في المتوسط.
سياح أتراك إلى اليونان
ويرجع مراقبون بعض أسباب النفور من السياحة في تركيا إلى الزيادة الكبيرة في معدلات التضخم وهو ما انعكس بارتفاع كبير في الأسعار وتضرر القدرة الشرائية بمن فيهم الأتراك أنفسهم، ما دفع أعدادا كبيرة منهم إلى التدفق على الجارة اليونان.
وتفيد البيانات الرسمية عن وزارة السياحة اليونانية بدخول أكثر من 316 ألف تركي اليونان بين شهري يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان أي بزيادة قرابة 50% عن الفترة نفسها في 2023، لتستحوذ بذلك السوق التركية على أكبر قفزة للسياحة الخارجية بالنسبة لليونان.
وفي الأول من أبريل/نيسان 2024، قدمت السلطات في اليونان، بعد أشهر قليلة من اللقاء التاريخي الذي جمع بين رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتشوتاكيس والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، “التأشيرة السريعة” ما يتيح للسياح الأتراك الحصول على تأشيرات عند وصولهم إلى 10 جزر يونانية محددة.
وعلى الرغم من التراجع يحتفظ صناع السياحة في تركيا بنظرة تفاؤل للمستقبل في انتظار احتواء المستويات العالية للتضخم، وذلك لاحتواء البلاد على وجهات سياحية متنوعة وتنافسية دوليا. كما لا تعاني تركيا مشاكل مرتبطة بالبنية التحتية وطاقة الاستيعاب، أو مشاكل مناخية متطرفة مقارنة بالجارة اليونان.
من نعمة إلى نقمة
تواجه الحكومة في اليونان معضلة حقيقية بين ضرورة التدخل لاحتواء تداعيات السياحة المفرطة وآثارها المدمرة من جهة، وبين الإبقاء على وتيرة الانتعاش وحماية القطاع ومن ورائه الملايين من فرص العمل.
لكن في كل الأحوال لا يمكن التغافل عن معاناة اليونانيين بسبب الارتفاع الكبير في سوق العقارات والإيجار في ظل التدفق غير المسبوق للسياح، كما تحدث عن ذلك عمدة سانتوريني، وهو واقع جديد يجعل الكثير من المناطق السياحية بعيدة عن متناول غالبية السكان المحليين والطبقة المتوسطة. بجانب ذلك المعاناة الموسمية من الاختناقات المرورية والتدهور البيئي نتيجة تراكم النفايات.
ويهدد معدل الكثافة السكانية المرتفع في المناطق السياحية مثل جزيرة سانتوريني، قرابة ألف ساكن لكل كيلومتر مربع، إمدادات المياه والكهرباء. وقد بدأ بعض رؤساء البلديات في الجزر بدق ناقوس الخطر خاصة أن البلاد تواجه أيضا آثارا متفاقمة لظاهرة الاحتباس الحراري.
وعرفت اليونان هذا العام شتاء يعد الأكثر دفئا منذ عام 1960، ومن ثم اجتاحت البلاد موجة حر بشكل أبكر عن المعتاد. وبحسب خدمات الأرصاد الجوية، يعد شهرا يونيو/حزيران ويوليو/تموز الأكثر سخونة في تاريخ اليونان مع تجاوز درجات الحرارة لعدة أيام متتالية حاجز 40 درجة.
وأعلنت بالفعل عدة جزر، بما في ذلك ليروس وسيفنوس وأجزاء من كريت وكيفالونيا، في ذروة الموسم السياحي حالة الطوارئ بسبب نقص المياه، حيث أثرت سنوات من الانخفاض الشديد في تساقط الأمطار والشتاء الحار بشكل غير طبيعي على الخزانات ومصادر المياه الجوفية.
وفي شهر يوليو/تموز الماضي أرسلت البحرية اليونانية ووزارة الدفاع سفنا تحمل المياه إلى جزيرة ليروس الواقعة جنوب بحر إيجة، لتلبية الاحتياجات المحلية.
وتعد العاصمة أثينا، وهي من العواصم الأكثر حرارة في أوروبا، الأكثر عرضة لتبعات التغير المناخي الحاد بسبب انحسار المساحات الخضراء، والاستنزاف الكبير في مواردها في الموسم السياحي.
وفي حين بدأت العديد من الدول الأوروبية في اتخاذ تدابير للسيطرة على السياحة المفرطة، حيث اتخذت مدينة برشلونة الإسبانية إجراءات ضد التأجير قصير الأجل، تريد أثينا من جهتها المضي قدما في إجراءات أكثر شمولية لكنها لم تعلن عن أي خطط رسمية لكبح حالة الانفلات الخطيرة في قطاع السياحة.