الجزائر- إلى عهد قريب كان الزائر إلى حاضرة الشرق الجزائري “قسنطينة” يشعر بمجرد أن تطأ قدماه أرضها أن هذه المدينة العريقة تتنفس فن المالوف.
وكانت جولة بالأحياء القديمة لسيرتا (الاسم القديم لقسنطينة) وأزقتها حيث تنبعث إيقاعات تلك الموسيقى الأندلسية من المحلات والمقاهي المتراصة تجعلك تدرك أن المالوف يشكل خلفية سمعية، ويزداد هذا الشعور عند رؤية صور سلطان فن المالوف الراحل محمد الطاهر الفرقاني حاملا آلة الكمان تزين الجدران وواجهات المحلات.
ولكن ذلك العهد وتلك الأجواء يبدو أنها ولت أو تكاد أمام طغيان الأغاني الخفيفة المحلية، الغربية على ميولات الأجيال الجديدة.
فن أندلسي عريق
طيلة 6 قرون ظل فن المالوف الأندلسي يؤثث لسهرات وأفراح وأعياد ويوميات سكان قسنطينة ومدن أخرى محاذية لها كعنابة وميلة وسوق أهراس وسكيكدة.
وتعود جذور المالوف إلى الأندلس وتحديدا مدينة إشبيلية حيث حمله المورسكيون معهم حين فروا من بطش محاكم التفتيش إلى المغرب العربي، فبقي يؤنس وحشتهم في منفاهم الجديد ليتحول مع مرور السنوات إلى تراث وجزء أصيل متجذر من الميراث الثقافي لقسنطينة التي احتضنه فنانوها وهذبوه وطوروه وبلغ أوجّه في العهد العثماني.
وينتمي المالوف إلى الموسيقى الكلاسيكية، وينحدر من المدرسة الإشبيلية، وتم تناقلها شفهيا من جيلٍ إلى آخر.
ويتكون المالوف من الشعر والموشحات والأزجال، وهو نوع تغذى بالألحان الصوفية والعيساوية المحلية، واسمه مشتق من كلمة “مألوف” وتعني الوفيّ للتقاليد.
ويتفرع المالوف القسنطيني لعدة طبوع منها العيساوة، وكذلك ما يعرف بالفقيرات والوصفان.
ويغنى المالوف على شكل نوبات مع إيقاع متغير (الذيل، الرصد، الماية، رمل الماية، الحسين، الزيدان، الرمل الكبير، السيكاه، المزموم، المجنبة).
ويسمى المقام الموسيقي في المالوف “النوبة” لتناوب المقامات الواحد تلو الآخر، ويصل عددها إلى 24 نوبة لكن لم يصل منها إلى عصرنا سوى 12 فقط.
والنوبة مزيج من الموسيقى العربية والأندلسية، ويبلغ عدد عازفيها 30 موسيقيا، يستخدمون آلة العود العربية فضلا عن الكمان ومجموعة من الآلات الإيقاعية مثل الدربُكة وآلتي القانون والمزمار (الغايطة).
ويتغنى هذا الفن بالطبيعة وجمال المرأة والحب والفراق، وهو عموما يتكون من قسمين: الأول دنيوي تكون موضوعاته مرتبطة بالأحداث والأماكن، والآخر رباني متصل بالمدائح الدينية الصوفية.
وقد برزت عدة أسماء في فن المالوف على مر العقود الماضية، منهم قدور درسوني، حمو فرقاني، شيخ حسونة، الشيخ ريمون، محمد الطاهر فرقاني، أمحمد الكرد، عمر شقلاب، زهور فرقاني، عبد الكريم بسطانجي، أليس فيتوسي، عبد المؤمن بن طوبال، عباس ريغي، سليم فرقاني، أحمد عوابدية.
فن مهدد بالاندثار
بعد سنوات مديدة من الرواج يجد فن المالوف نفسه منذ عدة سنوات في صراع مع الأغنية العصرية الخفيفة، فبات مهددا بالاندثار بعد أن بدأت مساحات انتشاره ورواجه تضيق بعد تضافر عوامل عديدة ساهمت في انحساره.
ويقول أستاذ موسيقى المالوف مهدي مقناوة للجزيرة نت إن السبب في ذلك يعود إلى “غياب جيل قادر على حمل المشعل، وتوسيع القاعدة الجماهيرية لهذا الفن في أوساط الأجيال الجديدة”.
ويؤكد مقناوة أن استمرار وازدهار هذا الفن مرهون أيضا بإدراجه “ضمن المقررات الدراسية الرسمية، خاصة أن هذا الفن يربي ويهذب ويرتقي بالأذواق إذا تم اختيار من يقومون بهذه المهمة بدقة”.
ومن الأسباب التي تقف أيضا وراء تراجع المالوف الكلاسيكي الصحيح هو الزمن الطويل في أداء نوباته التي تبلغ ساعتين، وهو ما قد يفقد المستمع القدرة على متابعته وقد يتسبب أحيانا في الضجر والنعاس خاصة لدى شباب الجيل الحالي الذي يفضل كل ما هو إيقاعي وخفيف.
ويقول عبد الحكيم بوعزيز وهو مطرب وأستاذ موسيقى المالوف وكان من أوائل الذين حاولوا إدخال تعديلات على المالوف مطلع الألفية “أنا لم أغير الآلات الموسيقية، ولا روح هذا الفن، بل غيرت الكلمات، لأن القصائد القديمة لم تعد تناسب هذا العصر، فكان لزاما علي أن أقدم أغاني جديدة تتحدث عن هذا العصر الذي نعيشه، وأعمل على تعديل الكلمات والقصائد التراثية، وأسعى من خلال هذا إلى تطوير المالوف”.
ولكن هذا المطرب -الذي حقق شهرة في سماء أغنية المالوف العصرية بتأديته لأغنية “سارة”- تعرض لانتقادات شديدة من شيوخ المالوف آنذاك وعلى رأسهم الراحل محمد الطاهر الفرقاني.
ويرى بوعزيز أن “المالوف” بقي حبيس عائلات بعينها واقتصر توريثه على أفرادها مما حال دون “تطوره وتماهيه مع روح العصر” لافتا إلى غياب فنانين يستطيعون إبداع كلمات وألحان جديدة تعبر عن أحاسيس واحتياجات أبناء هذا العصر” وبالتالي فإن “الذي لا يتطور يتقهقر”.
دور الجمعيات الموسيقية
تنتشر في قسنطينة جمعيات تقوم بتوسيع دائرة هذا التأثير الموسيقي، بفتحها المجال لتعلم المالوف لأشخاص من خارج العائلات التي توارثت هذا الفن طيلة عقود من الزمن من أمثال عائلة الفرقاني.
رشيد بوطاس، مطرب ورئيس جمعية “بلابل الأندلس” (جمعية غنائية مختصة في تأدية المالوف بقسنطينة) قال للجزيرة نت “المالوف فن عريق وهو رمز من رموز قسنطينة، ويجب البحث في كيفية الحفاظ عليه من التحريف، وتلقينه للأجيال القديمة وفق قواعده الصحيحة، لأنه لو استمر الوضع على حاله سنفقده إلى الأبد”.
وبنبرة فيها الكثير من الحسرة، يعترف بوطاس بأن المالوف أزيح عن عرشه بعد أن باتت تزاحمه الأغاني الغربية وأغاني الراي والأغنية الخفيفة بشكل عام، لافتا إلى أن “الجيل الجديد يفضلها على المالوف”.
يقول بوطاس إنه أسس هذه الجمعية للحفاظ على المالوف، لكن إقبال الشباب على تعلمه “بدأ في التراجع شيئا فشيئا منذ 2015” مرجعا ذلك لصعوبة هذا النوع من الفن والتحكم في آلاته، معربا عن تفاؤله في استمرار المالوف “إذا كثفت المهرجانات والتظاهرات الفنية وفتح المجال للمنافسة بين الشباب”.