إذا قادتك الأقدار إلى مدينة نيويورك، على الساحل الشرقي الأميركي، فعلى الأرجح ستكون مهتمًا بزيارة الموقع الذي كان يضم برجي التجارة العالميين اللذين استهدفهما هجوم 11 سبتمبر/أيلول 2001.
هناك، ستجد الآن أطول ناطحة سحاب في الولايات المتحدة، وسابع أطول مبنى في العالم، والذي حمل اسم “برج الحرية” قبل أن تُعاد تسميته “مركز التجارة العالمي”. وفي الطابق الثامن والثلاثين من هذا المركز، تقع مكاتب مجلة “نيويوركر” الأميركية، إحدى أهم المطبوعات في العالم، والتي تحتفل هذا الشهر، فبراير/شباط، بمئويتها الأولى حيث تأسست في مثل هذا الشهر من عام 1925.
على الرغم من حداثة المكاتب التي انتقل إليها الصحفيون بمجرد افتتاح المبنى في نهاية 2014، توحي الأجواء بالعراقة أكثر منها بالجدة. تتسلل أشعة الشمس من النوافذ الممتدة من الأرض إلى السقف، مانحة الأجواء بريقًا ذهبيا يعزز الشعور بالجمال، ومن الواجهات الزجاجية يرى المحررون والصحفيون سماء نيويورك أثناء انهماكهم في أعمالهم اليومية.
يمكنك أن ترى الجميع يعملون بجد، يتهامس بعضهم، وتتعالى الضحكات متخللة الحديث الهامس، ربما بسبب كاريكاتير مضحك أو تعليق كوميدي من تلك التي تشتهر بهم المجلة. في جانب من الغرفة قد تجد محررًا شابًا يركز في شاشة حاسوبه ويضيف فاصلة منقوطة في سطر وسط قطعة من عشرة آلاف كلمة عن الذكاء الاصطناعي، وعلى مكتب آخر ينحني أحد مدققي معلومات الذين يملؤون المجلة ليراجع تأكيد عدد سكان مدينة صغيرة في المغرب في أربعينيات القرن الماضي.
في ركن آخر، يتجمع عدد من رسامي الكاريكاتير، كبار السن في الغالب، تقودهم فتاة لا يبدو أنها تتجاوز الثلاثين من عمرها، حول طاولة يعملون، ولولا تلك الضحكات الساخرة التي تنفجر بين الفينة والأخرى، لحسبتهم جراحين يحملون مباضعهم من فرط التركيز. وعلى مقربة منهم تمسك محررة رقمية شابة بحاسبها اللوحي، وهي تختبر أداة ذكاء اصطناعي صدرت توا.
وعلى الحوائط التي يتحرك أمامها المحررون والصحفيون بخفة ظاهرة يحملون مطبوعاتهم أو حواسيبهم المحمولة، تستطيع مشاهدة عشرات من أغلفة المجلة تبدو كلوحات تنتمي إلى مدرسة حديثة في الفنون، وُضعت في إطارات بسيطة. وبين الأغلفة، تطل صورة بالأبيض والأسود لرجل خمسيني وسيم وحليق، بشعر مصفف بعناية، يرتدي نظارات دائرية ويحني رأسه ناحية اليمين فيبدو كما لو كان يراقب مكاتب المجلة برضا مع ابتسامة هادئة ترتسم على شفتيه.
ولعل الرجل يشعر بالرضا حقًا، فالصورة لم تكن لغير هارولد روس، الذي أسس مجلة نيويوركر قبل قرن من الزمان.
خلال كل تلك السنوات، ظلت نيويوركر تدفع الصحافة خارج حدودها المعهودة، لتمزج تقاريرها المليئة بالحقائق الدقيقة، مع فن أدبي قصصي راق. ولتقدم الرسومات الكاريكاتورية الأيقونية، والملفات الشخصية المعمقة، والمقالات الطويلة، والتي يمكن وصفها على العموم بأنها مسلية، ومستفزة للأفكار، وملهمة للتغيير في كثير من الأحيان.
ينظر صحفيو العالم على اختلاف مشاربهم إلى النيويوركر كنموذج على القوة الممتدة للصحافة، وقدرتها الهائلة على إلقاء الضوء على الحقائق، وتعزيز التواصل بين القراء والكتاب، وبين مكونات المجتمع، وبالتأكيد، مساءلة السلطة ومحاسبة النافذين.
خلال مائة سنة، تحولت مجلة نيويوركر من مشروع هارولد روس الذي وصفها بأنها “مجلة ساخرة بخمسة عشر سنتًا”، إلى منارة للتميز الصحفي حول العالم، ومؤسسة ثقافية، ومرآة تعكس تناقضات الحياة الأميركية. المجلة التي بدأت كدليل ذكي وبسيط للحياة في نيويورك، تطورت لتصبح قوة عالمية، تشكل الطريقة التي يفكر بها المؤثرون في الولايات المتحدة والعالم في السياسة والثقافة والاجتماع.
قدمت المجلة تأريخًا حقيقيًا للحياة في الولايات المتحدة، في تقاريرها المهمة عن الحروب التي خاضتها البلاد خارجًا، والحروب التي يخوضها الأميركيون مع بعضهم بعضا، وتعليقاتها الثاقبة على القضايا الشائكة. بل إن مواقف المجلة المترددة كانت دومًا ما تعكس تردد طبقة واسعة من الأميركيين، وانعدام قدرتهم على اتخاذ مواقف أخلاقية واضحة تجاه قضايا بعينها، ليس بداية بحركة الحقوق المدنية ولا نهاية بالحرب الإسرائيلية على غزة.
ولادة الظاهرة
هل تذكر صورة هارولد روس المعلقة على الحائط؟ في عام 1944 التقط هذه الصورة أحد أهم مصوري الولايات المتحدة، فابيان بارخاخ، والذي جلس أمام كاميرته رونالد ريغان والملك فيصل بن عبد العزيز ومحمد علي (كلاي) وجواهرلال نهرو وغيرهم كثيرون. لكن لم تكن هذه الصورة حقيقة روس عندما كان على وشك تأسيس المجلة قبل التقاط هذه الصورة بعشرين عامًا.
وصف أحد زملاء روس وجهه حينها: إنه يبدو كما لو كان “خريطة بعد الحرب”، فقد كانت أسنانه معوجة، وشعره دائم الفوضى، وحديثه مشبع بالألفاظ البذيئة. كان روس قد عاد من الخدمة في الحرب العالمية الأولى، ليعمل في مجلة للمحاربين القدماء، وبعد أن أُغلقت المجلة، وجد نفسه ضائعًا في نيويورك، المدينة التي تجمعه بها علاقة حب وكره في آن، فهي ذات وتيرة سريعة لا تتوقف، لكنها لا تجعل لساكنها راحة في غيرها.
كان روس يحلم بنوع جديد من المجلات، نوع قادر على التقاط روح المدينة وفوضاها وتناقضاتها، نوع وصفه هو بأنه “غريب الأطوار وساخر ومبهج” في نفس الوقت. وعلى الرغم من عيوبه الظاهرة في محيّاه، كان روس يتمتع بخصلتين كانتا السبب في تقديمه للعالم، إيمان لا يتزعزع برؤيته للنجاح، وقدرة عالية على إقناع الآخرين باستثمار أموالهم فيه.
كان روس قد نُحت من الصخر، إذ كان والده، جورج، عاملاً في المناجم، وكانت والدته، إيدا، معلمة شديدة المحافظة، غرست فيه هوسًا بالدقة اللغوية والقواعد النحوية. ترك روس المدرسة الثانوية في سن 14 وأصبح مراسلًا عابر سبيل، عمل في اثنتي عشرة صحيفة عبر الولايات المتحدة. أعطته هذه الرحلة المبكرة دروسًا قاسية وأضفت على حياته عمقًا وازدراء للمظاهر الخادعة وفضولًا لا يتوقف، كما يقول تشارلز ماكغراث الذي كتب عن حياة روس في مجلته عام 1995.
لذلك لم يحاول روس أن يغير من طبيعته لكي يحصل على المال اللازم لتأسيس المجلة. فقضى شهورًا يروج للفكرة ويتكلم عنها لأي شخص يصغي. في 1924، وافق راؤول فلايشمان، رجل الأعمال وريث إمبراطورية صناعة الخميرة، على تمويل المشروع وتأسيس المجلة. لم يكن فلايشمان مثقفًا مهمومًا، بل إنه لم يقرأ المجلة أول الأمر، لكنه كان قد فُتن بالطاقة التي تشع من روس، واقتنع بحجته أن نيويورك تنقصها مجلة تعكس تميزها!
كانت أيام نيويوركر الأولى فوضوية لأبعد مدى. وكان العدد الأول والذي نُشر في 21 فبراير/شباط 1925 كارثة! فقد كان روس يأمل في خلق شيء جديد، لكن النتيجة كانت خليطًا من الكتابة المعقدة، والرسوم الكاريكاتورية المحرجة، والأخطاء المطبعية. وصف روس الأمر لفلايشمان بأنه “خيبة أمل رهيبة”، ووعد بأن يحسّن من عمله في المرة القادمة، وقد فعل!
ففي الأشهر التالية، استقطب روس وفريقه كتابًا موهوبين، وطوروا صوتًا خاصا بالمجلة، واقتنعوا جميعًا بأن نيويوركر يجب أن تكون انعكاسًا للمدينة نفسها، سريعة الوتيرة، شديدة التنوع، ولا تتوقف عن الإبهار.

كان أسلوب روس التحريري يضم مزيجًا من الفوضى والدقة. كان شديد الدقة ويصر على أن كل صغيرة وكبيرة -من موقع الفاصلة في الجملة إلى دقة صورة الخلفية في رسم كاريكاتيري- يجب أن تكون صحيحة تمامًا. كان روس يعقد اجتماعات فنية أسبوعية يمكن أن تستمر ساعات، يفحص كل مقال وكاريكاتير بإبرة تريكو بيضاء يمسك بها كمؤشر. يعتقد ماكغراث أن هذه الحرفية كانت الوجه الآخر لمأساة روس: إنها تنبع من عدم الأمان الذي تشكل معه منذ صباه. لكنها أيضًا قد تكون قد صدرت عن قناعة بأن الجمهور يجب أن يكون قادرًا على “قراءة” القطع الفنية والرسوم بقدر سهولة قراءته النص المكتوب. بهذا قدمت نيويوركر وروس للعالم اختراع الكاريكاتير الحديث.
بحلول نهاية العام الأول، بدأت نيويوركر تجتذب متابعين مخلصين أعجبهم ذكاء المجلة واستعدادها للمخاطرة والتجريب، ففي أحد الأعداد المبكرة جربت المجلة السخرية من الأسلوب الرتيب الذي تتبعه صحيفة نيويورك تايمز بنشر عدد كامل يضم أخبارًا وهمية كُتبت بصيغة نيويورك تايمز! كان الأمر مضحكًا ومؤثرًا في آن، إلى حد أن روس قال لفريقه لاحقًا “نحن لسنا مجلة فحسب، نحن حالة ذهنية!”.
على ذكر الحالة الذهنية، فإحدى المفارقات التي تجدر الإشارة إليها أن نيويوركر تُعد إحدى أكثر المجلات الرصينة تقدمية وانفتاحًا، لكن زواج روس الأول، والذي كان من جين غرانت، وهي شريكته في تأسيس مجلة نيويوركر، انتهى بسبب بعض تلك النزعات التقدمية! فحين تحدث روس عن زواجه الأول، قال إن السبب في انفصاله عن زوجته كان “أنني لم أحظ بوجبة واحدة في المنزل ولم تتمحور فيها المناقشة حول حقوق النساء وقسوة الرجال”، وتابع روس: “قد تتحمل عدة سنوات من ذلك الخطاب، لكن الأمر لا يمكن أن يستمر”. لقد انفصل روس عن زوجته غرانت عام 1929 لأنها كانت نسوية!
أنت تسأل ونيويوركر تجيب: هل الجنس ضروري؟
إذا كان هارولد روس هو المهندس الذي وضع الأسس لنيويوركر، فإن روح المجلة تكونت في العشرينات والثلاثينات لتتحول إلى مؤسسة ثقافية تشع بمزيج من الحكمة والذكاء والفكاهة! كان هذا على يد الكاتبين الساخرين: الروائي إي بي وايت، والقاصّ جيمس ثيربر، والذي كان فنانًا كاريكاتوريا كذلك.
التحق إي. بي. وايت بمجلة نيويوركر في عام 1926، بعد عام واحد من تأسيسها. كان رجلا خجولا، قليل الكلام، لكن كتابته كانت تبدو لمن يقرأ كما لو كانت موسيقى تتراقص فوق الصفحات! روس، الذي كان لديه موهبة لاكتشاف المواهب، أدرك إمكانيات وايت على الفور.
“هذا الرجل يستطيع الكتابة”، هكذا قيل إنه قال بعد قراءة واحدة من مقدّمات وايت الأولى. وُظف وايت ككاتب، لكن دوره توسع بسرعة ليشمل التحرير، التدقيق اللغوي، وحتى المساهمة في قسم “حديث المدينة” الشهير في المجلة. كانت كتاباته تتميز بسلطة هادئة وإحساس عميق بالإنسانية، وهي صفات سترتبط دوما بنيويوركر.
أما جيمس ثيربر فهو موهبة من نوع مختلف، كان رجلا نحيفا ذا نظارات يتمتع بموهبة هائلة لتحويل الأمور العادية إلى قمة العبث. انضم ثيربر إلى المجلة في عام 1927، في البداية كمحرر إداري، لكن سرعان ما أصبح واضحًا أن موهبته الحقيقية تكمن في كتاباته ورسوماته. كانت رسومات ثيربر غير مشابهة لأي شيء نشرته المجلة من قبل. وقصصه، كثير منها مستمد من حياته الشخصية، مميزة بنفس القدر، حيث تمتزج الملهاة والمأساة بطريقة تبدو شخصية جدًا وقابلة لأن يتعلق بها الجميع وأن يرى فيها كل شخص نفسه.
تشارك وايت وثيربر مكتبًا صغيرًا في المقر الضيق لنيويوركر، حيث قضيا ساعات في التعاون، والجدل، وأحيانًا في صنع المقالب لبعضهما بعضا. كان عملهما يكمل بعضه بعضا في مثالية: فقد كان نثر وايت مصقولًا ودقيقًا، بينما كانت كتابة ثيربر وحشية وغير متوقعة. معًا، خلقا نوعًا من الخيمياء التي صعدت بالمجلة إلى مستويات جديدة.
لكن لم تكن الفكاهة فقط أو التناغم بينهما ما جعل وايت وثيربر علامتين فارقتين في تاريخ نيويوركر، بل قدرتهما على التقاط روح المجلة وإعادة صياغتها من جديد “الإيمان بقوة الحكايات، وأهمية التخصص والصنعة، والمعنى من رؤية العالم بصراحة ممزوجة بالتعاطف. كانت مقالات وايت، سواء كانت عن تغير المواسم في ولاية أميركية نائية، أو عن تعقيدات الديمقراطية في واشنطن العاصمة، مشبعة دومًا بإحساس الدهشة، في حين كانت قصص ورسومات ثيربر، الفكاهية التي قد يراها بعضٌ سخيفة، شديدة العمق من حيث كونها تكشف حقائق عن دواخل الإنسان ومخاوفه وعيوبه وقدرته الهائلة على الصمود.
أما أبرز عمل تجلت فيه موهبة وايت وثيربر فهو سلسلة المقالات التي نُشرت بعنوان “هل الجنس ضروري؟”. في النصف الثاني من العشرينات، كانت كتب التنمية البشرية، والنظرة الفرويدية لعلم النفس والطبيعة البشرية تغزو العالم، وكانت هذه السلسلة هي رد وايت وثيربر.
فقد كانت درسًا في الذكاء والفكاهة، سخرت من ادعاءات فرويد عن الإنسان والجنس، وقدمت رؤى حقيقية عن طبيعة الإنسان. تحولت سلسلة المقالات إلى أحد أكثر الكتب مبيعًا في حينه، حيث قدم نصائح هزلية ومضحكة تسخر من هوس الناس في تلك الحقبة بالجنس والعلاقات، وفي كتاباتهما كان وايت وثيربر يشتبكان مع الثقافة السائدة وينقدانها بتهكم!
كان نجاح الكتاب شهادة على قدرة نيويوركر على الاشتباك مع الثقافة والمجتمع باستخدام السخرية لانتقاد الأعراف الاجتماعية وإثارة الحوارات في موضوعات غالبًا ما تعتبر من المحظورات. أضافت رسومات ثيربر طبقة أخرى من السحر، حيث عرض سخف العلاقات الإنسانية بخطوطه المتعرجة وشخصياته ذات العيون الواسعة. مع احتفاظهما بوجه رصين وشخصية جادة، حث وايت وثيربر القراء على السخرية من أنفسهم والضحك على بعض الأعراف التي كانوا يتعاملون معها كمسلمات غير قابلة للنقد.
عكست سلسلة “هل الجنس ضروري؟” النهج المختلف لمجلة نيويوركر تجاه الثقافة والصحافة. فقد كانت المجلة دائمًا مساحة يلتقي فيها الغث بالثمين، والرفيع بالدنيء، حيث تلتقي معالي الأفكار، بأسافل الخواطر. كانت هذه السلسلة والكتاب لاحقًا تذكيرًا بأن السخرية يمكن أن تكون وسيلة لحل إشكالات المجتمع ومواجهة الحقائق المزعجة بخفة.
بعد عقود عدة، لا يزال كتاب “هل الجنس ضروري؟” حجر الزاوية في الفكاهة الأميركية، يقدم نفسه كشهادة على التأثير المستمر لنيويوركر وكتابها. وفي السنوات اللاحقة تحول وايت إلى أحد أكثر الكتاب شهرة وتأثيرًا في الولايات المتحدة، بروايات وكتب أصبحت ضمن مقررات الدراسة وجزءًا من الثقافة العامة. أما ثيربر، الذي لم يعش طويلًا، فقد ألهم أجيالًا من الكتاب والرسامين.
الوجه المظلم لنيويوركر
لا يمكن لأحد أن يماري في أن مجلة نيويوركر أضحت إحدى أهم المنصات الصحفية التي ظهرت في العالم خلال القرن الأخير، ومع ذلك لم تكن المجلة محصنة من النقد المستحق.
كانت أبرز الانتقادات التي وجهت إلى نيويوركر تتعلق بإدراكها المنعزل عن هموم الطبقات الكادحة في الولايات المتحدة والعالم. فلفترة طويلة من عمرها، كان يُنظر إلى نيويوركر باعتبارها معقلًا لنخبة الولايات المتحدة من الأثرياء البيض الذين درسوا في جامعات النخبة على الساحل الشرقي لأميركا. تحدث المنتقدون عن نيويوركر كممثلة لشريحة ضيقة من الأميركيين، متجاهلة أصوات وتجارب وحيوات أغلبية الناس. لكن يُحسب للمجلة أنها اضطرت عبر السنين إلى مواجهة هذه الانتقادات بإصلاح أخطائها، أو حتى إعادة اختراع نفسها.
يتجلى ذلك بوضوح في العلاقة بين نيويوركر وحركة الحقوق المدنية الأميركية، ورموزها من السود. فالعلاقة بين نيويوركر وحركات التحرر من الهيمنة البيضاء يمكن أن توفر لنا مدخلًا لدراسة التناقضات، وملاحظة الفارق بين الصمت والتواطؤ، فقد كان تفاعل الحركة مع مطالب السود أقل توازنًا من المأمول من منصة بهذا التأثير، إذ عكس منظورها الليبرالي، وآراء محرريها البيض، مع لحظات متفرقة من صحوة الضمير والوضوح الأخلاقي.
ففي الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، ومع تزايد زخم حركة الحقوق المدنية، كانت نيويوركر بطيئة في الاستجابة لتطلعات الأميركيين السود. كانت المجلة أكثر تركيزًا على الحياة الثقافية والفكرية لمدينة نيويورك أكثر من التغيرات الجذرية التي يتصارع عليها الأميركيون خاصة في الجنوب. لم يكن هذا مفاجئًا تمامًا؛ فقد كانت غالبية طاقم المجلة والمساهمين فيها من البيض، ولم تكن قاعدة قرائها، على الرغم من آرائهم التقدمية المتنوعة، قد أدركت بعد إلحاح قضية العدالة الاجتماعية والتمييز العرقي.
لكن في عام 1963، كسرت المجلة صمتها حين نشرت “رسالة من سجن برمنغهام” لمارتن لوثر كينغ. كانت الرسالة، المكتوبة ردًا على رجال دين بيض انتقدوا أسلوب كينغ في التغيير، وقدم فيها دفاعًا قويًا عن المقاومة اللاعنفية واتهامًا قاسيًا للظلم العنصري. كان نشر رسالة كينغ في نيويوركر نقطة تحول، حيث قدمت أفكاره لجمهور واسع على مستوى البلاد، ولشريحة لم تعتد السماع منه، وبذلك أُجبرت المجلة على التفاعل مع إشكالات العصر السياسية والأخلاقية.

في العام نفسه، نشرت المجلة مقال “النار المقبلة” للكاتب الرائد في حركة الحقوق المدنية جيمس بالدوين، ونُشر لاحقًا ضمن كتاب أصبح من ضمن الأكثر مبيعًا، وأحد أهم الأعمال الأدبية لحركة الحقوق المدنية في أميركا. لكن علاقة بالدوين تحديدًا بنيويوركر كانت معقدة، فقد قدمت له المجلة منصة لنشر أفكاره وآرائه فعلا، لكنها أيضًا جسدت نوعًا من راحة الضمير والرضا الليبرالي الأبيض والذي انتقده بالدوين كثيرًا.
كانت نيويوركر في تغطيتها النضالَ المدني للسود في الولايات المتحدة غير متسقة، فقد نشرت لكتاب مهمين، لكنها تجاهلت كتابًا آخرين، ولم تتح الفرصة لمفكرين ومنظرين بإسماع أصواتهم للعالم. ويمكن القول، إن تعامل المجلة مع مالكوم إكس (الحاج مالك الشباز) والذي لم يحصل على أي اهتمام من المجلة خلال حياته، ولم تنشر المجلة ملفًا شخصيًا (بروفايل) مطولًا عنه إلا بعد وفاته عام 1965. يمكن أن نصف هذا التأخير بأنه رمز لنمط يتكرر في نيويوركر، إذ إن المجلة غالبا ما تبدو أكثر استعدادًا للتعامل مع القضايا الشائكة من على مسافة بعيدة، بدلًا من أن تكون ضمن النضال نفسه كصوت من أصوات التغيير.
في العقود التي تلت، حاولت نيويوركر التصالح مع إرثها، أو الصراع معه، من خلال إعطاء مساحة لكتاب أكثر جذرية في أفكارهم المرتبطة بالظلم العرقي. فقد أجبرت حركة الحقوق المدنية المجلة على إعادة اختراع نفسها في المجتمع الأميركي، لا كمؤرخة للثقافة ولكن كمشاركة في المناقشات الأخلاقية والسياسية لعصرها.
لكن ليست كل الانتقادات سواء، فقد تعرضت نيويوركر لجدل في سنواتها السابقة لكن من جهة أخرى. ففي عام 1962، نشرت المجلة تقرير الفيلسوفة الألمانية حنا آرندت عن محاكمة أدولف أيخمان في إسرائيل بعنوان “أيخمان في القدس”. حينها تعرضت آرندت والمجلة إلى هجوم حاد بعد أن انتقدت المجالس اليهودية وبعض قيادات اليهود الأوروبيين لتعاونهم مع النازيين.
اتهم قراء المجلة آرندت، وهي الهاربة من النظام النازي، بإلقاء اللوم على الضحايا، وانتقدوا نيويوركر على إعطائها المساحة! دافعت المجلة على لسان رئيس تحريرها آنذاك، ويليام شون، عن تقرير آرندت والذي أصبح علامة فارقة في تاريخ الصحافة والفكر في القرن العشرين، وأضاف للمجلة رصيدًا كبيرًا على دورها في تشكيل الخطاب العام، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم كله.
يمكن النظر إلى مسيرة نيويوركر، في كثير من النواحي، باعتبارها قصة الصحافة الأميركية نفسها. لقد وُجهت للمجلة اتهامات بأنها متعالية ونخبوية أو حتى منافقة تستميل الضعفاء دون أن تدعمهم على الحقيقة. لكن المدافعين عنها يجادلون بأن نيويوركر كانت دائمًا قيد التطور، مجلة تتقدم باستمرار وتسعى إلى التحسن. كما قال محررها منذ عام 1998 ديفيد ريمنيك، “نحن لسنا مثاليين، لكننا نحاول”.