تمر، اليوم 4 مايو/أيار، الذكرى 32 لرحيل “موسيقار الأجيال” محمد عبد الوهاب، أحد عمالقة الطرب الأصيل في الوطن العربي، بعد مسيرة فنية امتدت لنحو 77 عاما.
خلال حضوره على الخريطة الفنية، اعتمد عبد الوهاب على موهبته الكبيرة وذكائه ومرونته في التعامل مع الأجيال المتعاقبة، فضلا عن الحظ الذي ساعده ليحظى بالاهتمام والدعم في بداياته.
وقدّم الفنان المصري، في مشواره الطويل، نحو 1800 لحن، إلى جانب أعماله المسرحية والسينمائية وشركة الإنتاج التي أسسها.
نبوءة الشيخ رفعت
نشأ عبد الوهاب، المولود عام 1902، في منزل اهتم بالتعليم وحفظ القرآن. والده الشيخ محمد أبو عيسى، مؤذن وقارئ مسجد سيدي الشعراني في باب الشعرية بالقاهرة القديمة. والتحق الابن بكتّاب المسجد، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم.
وكان في تلك المرحلة التي أسست موهبته حريصا على الاستماع، فكان يذهب إلى الموالد وسرادق العزاء للاستماع إلى القرآن، وأحيانا إلى أهل الطرب. وذات يوم زار المنطقة الشيخ محمد رفعت لحضور مولد، فتنبأ له بمستقبل عظيم بعد أن سمع صوته.
وعلى الرغم من أن والده كان يتطلع إلى إلحاقه بالأزهر الشريف ليكمل مسيرته كقارئ ومؤذن، فإن الفتى اتجه نحو الغناء والموسيقى وهو في العاشرة من عمره. وعمل في فرق غنائية ومسرحية عدة منحته خبرة الوقوف على المسرح ومواجهة الجمهور، منها “فرقة فوزي الجزايرلي” حيث كان يغني بين فصول المسرحيات.
امتداد لسيد درويش
بدأ المجتمع الفني الاعتراف بموهبة عبد الوهاب بعد أن رشحه “موسيقار الشعب” سيد درويش عام 1921 ليقوم بشخصية “زعلبة” بدلا منه في “أوبريت شهرزاد” وذلك لمرضه.
وراح الشاب يشدو بأغنية درويش الشهيرة “أنا المصري” ليشق لنفسه آفاقا جديدة إثر انضمامه إلى فرقة درويش الذي جمعته به صداقة لم تدم طويلا، بسبب الوفاة السريعة للأخير عام 1923.
ساهمت وفاة درويش في ارتفاع صيت عبد الوهاب حين أسندت إليه “سلطانة الطرب” منيرة المهدية مهمة استكمال تلحين رواية “كليوباترا” والتي توفي درويش قبل أن يكملها، إذ كان لحّن فقط الفصل الأول وختام الفصل الثاني، فشرع عبد الوهاب في تلحين الفصلين الثاني والثالث.
شكّل إنجاز هذه المهمة نقطة تحوّل في حياة عبد الوهاب المهنية، فقدم شخصية “أنطونيو” ليتسلّم راية المسرح الغنائي من درويش. كما تسلّم راية التجديد الموسيقي، وإن كانت بصمة درويش في موسيقاه ظلت واضحة. ويظهر ذلك بوضوح في أسطوانة “فيك عشرة كوتشينه” التي سجّلها عام 1927.
ومع تراجع الاهتمام بالمسرح الغنائي، اتجه عبد الوهاب إلى السينما، فقدم أول أفلامه “الوردة البيضاء” عام 1932. وكان من أوائل المطربين الذين شرعوا في تقديم أعمال سينمائية غنائية ناجحة، ومنها “يوم سعيد” و”رصاصة في القلب”.
دعم أمير الشعراء
في طفولته، شاء القدر أن يجتمع بالشاعر أحمد شوقي في مسرح “برنتانيا” وسط القاهرة، وهو في العاشرة من عمره. إلا أن شوقي وقتها اعترض على عمل عبد الوهاب لصغر سنه وهو ما قال عنه “موسيقار الأجيال” في مذكراته “كرهت شوقي وقتها لمحاولته منعي من أجمل شيء في حياتي، وهو الغناء”.
لكنه كان محظوظاً في لقائه الثاني مع “أمير الشعراء” في كازينو “سان ستيفانو” بالإسكندرية، ليوضح له أنه رفض غناءه وهو صغير، خوفاً على صوته وموهبته.
عندها، عمل شوقي على تبني عبد الوهاب فنيا، فاهتم بإكمال تعليمه، ليس فقط اللغة العربية والشعر، ولكن أيضا الموسيقى الغربية والثقافة العامة. والتحق الفتى الموهوب بنادي الموسيقى الشرقي، وقدّمه إلى صفوة المجتمع والمثقفين وأصحاب النفوذ. كما رشحه لتلحين أشعاره، مما ساهم في شعبية عبد الوهاب على مستوى النخبة والجماهير. وساهم في ذلك استيعابه الموسيقى الشرقية، ثم مواكبة الموسيقى الغربية، وهو الملمَح الذي ميّز موسيقاه.
أول نقيب للموسيقيين
الحظ ساعد عبد الوهاب، أيضا، ليحقق حلمه بأن يكون نقيباً للموسيقيين، لاعتراضه على أن يكون منصب النقيب لامرأة، على الرغم من أن أم كلثوم هي صاحبة فكرة النقابة في أربعينيات القرن الماضي لحفظ حقوق الموسيقيين مع تبلور فكرة النقابات تلك الفترة.
وبالفعل أسست أم كلثوم النقابة التي ظلت تحت إدارتها، لكن عبد الوهاب رأى أنه الأجدر بالمنصب. ومع الانتخابات، فازت أم كلثوم بالمقعد. وبعد ثورة الضباط الأحرار على النظام الملكي عام 1952، وصدور قانون النقابات المهنية، أجريت انتخابات جديدة استطاع فيها عبد الوهاب أن يحقق حلمه بأن يصبح أول رئيس للنقابة في شكلها الجديد عام 1954.
انتصر على جيل الأغنية الحديثة
لقب “موسيقار الأجيال” الذي مُنح لعبد الوهاب لم يأتِ من فراغ، وإنما استحقه بجدارة، إذ نجح الفنان في أن يثبت حضوره بقوة بين الأجيال المتعاقبة خلال مشواره الكبير، فبزغ نجمه بين جيل العشرينيات، واستمر في الثلاثينيات والأربعينيات.
ومع ظهور أجيال جديدة متعاقبة، استطاع عبد الوهاب أن يحجز لنفسه مساحة جديدة حين لعبت ألحانه دورا في إنجاح تجارب مطربين آخرين، وأشهرهم عبد الحليم حافظ، فكان بالذكاء الكافي الذي أبعده عن فكرة المنافسة.
وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي، استطاعت أغنيته “من غير ليه” التي طرحها بصوته أن تحقق نجاحا كبيرا، وتتصدى للأغنية الحديثة التي كان أشهر نجومها آنذاك عمرو دياب.
وهكذا، أثبت عبد الوهاب مهارته في الصنعة الموسيقية، مؤكداً أنه من أكثر فناني عصره تنوعاً وغزارة في الإنتاج. وقد توفي في 4 مايو/أيار 1991 عن عمر ناهز 87 سنة، تاركاً إرثاً موسيقياً وفنياً لا يُضاهى .