غزة– كان يقفز فوق الموت المتناثر أرضا، صوت القصف يطارد خطواته، يهرول بأبنائه، محاولا أن يقودهم بعيدا عن دائرة الخوف، لم يدرك أن الخوف الذي يهرب منه ليس سوى مقدمة لحقيقة أكثر مرارة حين سقط الصاروخ الأخير الذي فقأ عينيه ليختفي الضوء بعدها، ويتحول كل شيء إلى ظلام دامس.
كان المشهد الأخير الذي تجمد في ذاكرة فؤاد أبو عودة كابوسا يحمل تفاصيل قاسية من فاجعة فيها أجساد مقطعة وبرك من الدماء، وبعدما استعاد الوعي بدأ يتساءل إن كانت هذه الظلمة هي ظلمة القبر، لكن الضجيج حوله وتلمّس رأسه النازف جعله يُدرك أنها ظلمة الحياة التي أطفأت إسرائيل ألوانها في لحظة وللأبد.
يقول فؤاد للجزيرة نت “هممت بالزحف، وفي كل مرة كنت أرتطم بالركام والحجارة، ثم بدأت أتحسس وجهي، وجدت الدماء تخرج من عيني، وبدأت بالصراخ لألفت أنظار من حولي بأنني هنا”.
فقد فؤاد الذي لم يتجاوز الـ29 من عمره عينيه، كما فقد قدرته على القيام بعمله بنّاء وعلى ممارسة موهبته رساما متألقا، كما أصبح مستقبله محاطا بضباب كثيف لا يرى بدايته ولا نهايته، وأكبر تحدياته اليومية هو البحث عن شربة ماء، وهو عجز كان كافيا ليمزق روحه كما يقول. يختم فؤاد مقابلته مواسيا نفسه “لله ما أخذ ولله ما أعطى، الحمد لله”.
شبح النزوح
وفي أحد زوايا النزوح، تحوقل فداء الريفي (35 عاما) المصابة بالشلل النصفي على كرسيها المتحرك، حيث أصيبت به في الثانية عشرة من عمرها نتيجة لمرض جلدي نادر، ترى فداء في النزوح شبحا يطاردها في كل مرة يصدر الاحتلال فيها أوامر إخلاء للمنطقة التي تنزح فيها.
“نزحت 6 مرات”، تقول فداء للجزيرة نت “وفي كل نزوح كنت أجد نفسي في منتصف الطريق عاجزة عن فعل أي شيء”. لم يكن بمقدورها حمل أغراضها أو حتى حقائبها البسيطة، وكان كل همها ينحصر في كيفية دفع كرسيها المتحرك فوق الطرق الوعرة المقصوفة، وتضيف “بعد نزوحي 6 مرات أخذت قرارا بالبقاء في البيت حتى لو كان ذلك يعني الموت”.
لا تقتصر معاناة فداء على الإعاقة والنزوح، إذ يعصف بها مرض جلدي مزمن يتفاقم مع برودة الشتاء، حيث تظهر التقرحات والتسلخات على جلدها الهش، لتتحول كل حركة بسيطة إلى ألم لا يحتمل. تقول فداء “منذ عام لم أستطع الحصول على العلاج والمراهم البسيطة التي أصبحت نادرة، حتى البديل الوحيد وهو زيت الزيتون، أصبح سعره باهظا ويصل إلى 40 دولارا، وهذا مبلغ لا أستطيع توفيره”.
تشكو فداء بحرقة من الإهمال الذي يواجهه ذوو الإعاقة “نحن من الفئات المهمشة ونحتاج إلى الحفاضات، والكراسي المتحركة، والعكاكيز، والأدوية، وحتى التوعية بحقوقنا لكن لا أحد يستمع”.
أما فاطمة فبقدم واحدة وعكازين نزحت 5 مرات في الطرقات الوعرة، تفتح كفيها المتورمتين وتقول للجزيرة نت “منذ أكثر من عام وأنا أفر من الموت ممسكة بالعكاكيز”، لم يكن الوصول إلى الملاجئ نهاية المأساة بل بداية لمآسٍ جديدة تتمثل في افتقار أماكن النزوح إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة، وتضيف “ننام على الأرض، الحمامات غير مهيئة لنا، البيئة غير موائمة لنا، ولا تصلح للحياة”.
قطع الأنفاس
تلك المآسي تركت بصمات التشويه على وجه الطفل مجد الشغنوبي (14 عاما)، الذي تلقى شظية صاروخ اخترقت وجهه، وفتتت فمه وأنفه، وتركت خلفها ندوبا أبدية ووجها بلا ملامح.
أُصيب مجد في “مجزرة الطحين” على دوار الكويت في مدينة غزة، تمكن الأطباء من إنقاذه جزئيا، حيث أجروا له فتحة للتنفس من عنقه، في محاولة منهم لانتشاله من بين براثن الموت. بدأت حالة مجد بالتحسن إلى أن حوصر في مستشفى الشفاء حيث توقف جهاز الشفط اللازم لتنظيف فتحة التنفس، ليسد الدم المتجمد المجرى، وتنقطع أنفاسه مجددا، ليواجه الموت من جديد وجها لوجه.
رحلة طويلة من الألم تشي بقبح الحرب التي سلبت من الصغار طفولتهم وملامحهم، تقول أم مجد للجزيرة نت “منذ 10 شهور ونحن نتنقل بين المشافي ونقوم بحلول مؤقتة، حيث حاولنا تثبيت عظام وجهه بشريحة معدنية لتستعيد شيئا من تماسكها، لكنها خلفت التهابات مزمنة وآلاما لا تتوقف”.
يواجه مجد صعوبة مضنية في النطق، ولا يستطيع ابتلاع الطعام إلا من خلال أنبوب، ويحتاج الصغير إلى أن يُحوَّل بشكل عاجل للعلاج في الخارج، خاصة مع استنزاف الحلول التي يمكن أن يقدمها له الأطباء في قطاع غزة، الذي يعاني انهيارا في المنظومة الصحية.
“سبقتني عيني إلى الجنة”
أما سهى، فقد عاشت لحظات لن تنساها خلال حصار حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، حين اخترقت شظية عينها اليمنى، في استهداف مباشر لهم، حيث ظلت عينها تنزف لساعات لعدم تمكن سيارات الإسعاف من الوصول إلى مكان الحادث بفعل حصار الآليات الإسرائيلية، تقول سهى للجزيرة نت “وأنا أنزف ورغم الألم المروع الذي دهمني كان تفكيري منصبا على مصير والدتي ولم أهدأ إلى أن عرفت أنها بخير”.
منذ اللحظة الأولى، أدركت سهى أن عينها قد فارقتها إلى الأبد “شعرت بها كأنها غادرتني، لقد سبقتني للجنة”، لم تنتهِ مأساة الفتاة عند الإصابة فحسب، بل تضاعفت في ظل العجز التام عن تلقي العلاج في مستشفيات غزة، فالنقص الحاد في الجرّاحين المتخصصين والأجهزة اللازمة لمعالجة الإصابات المعقدة جعل إجراء أي عملية جراحية أمرا مستحيلا.
تقول سهى للجزيرة نت “الألم يلتهمني كل يوم ولا مسكنات أصلا للتخفيف منه ولا أحد على الإطلاق يشعر بي”، وتناشد سهى العالم “أوقفوا هذه الحرب، افتحوا المعابر، تحملت كل شيء، لكن لا يمكنني تحمل هذا الخوف والوجع أكثر، أحتاج إلى علاج، أحتاج إلى عين فقط”.
وفي حين يحتفل العالم باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة في الثالث من ديسمبر/كانون الأول من كل عام، بحسب تأريخ الأمم المتحدة، لتسليط الضوء على حقوق هذه الفئة، يتحول هذا اليوم إلى تذكير مؤلم بالإبادة التي يتعرض لها ذوو الإعاقة في قطاع غزة.
فقد قتلت إسرائيل في هذه الحرب أكثر من 300 شخص من ذوي الإعاقة، بينما لا يزال مصير العديد منهم مجهولا، فبعضهم فُقدوا وآخرون اعتُقلوا في ظروف غامضة، وبينما كان عدد ذوي الإعاقة في القطاع يُقدّر بـ130 ألف شخص، وفقا لبيانات مركز الإحصاء المركزي، فقد أُضيف إليهم 23 ألفا آخرون ممن تسببت ظروف الحرب في إعاقتهم، سواء بسبب الإصابات المباشرة أو التدهور الصحي الناتج عن نقص الخدمات.
كما دمر الاحتلال المنشآت الصحية والتعليمية التي تخدم ذوي الإعاقة، ودفعهم للنزوح في مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة وغير المهيأة لاحتياجاتهم الخاصة، بل تزيد معاناتهم النفسية والجسدية، في انتهاكات لا حصر لها لمواثيق دولية تضرب إسرائيل بها عرض الحائط.