طوال سنوات عدة اتبعت السعودية نهجا يقوم على “استعراض العضلات” بحسب وصف “فاينانشال تايمز”، برز في عهد وزير الدفاع آنذاك، الأمير محمد بن سلمان، والذي أصبح ولي العهد لاحقا.
وذكرت الصحيفة أن تلك الفترة تجسدت بانخراط المملكة في حرب باليمن وفرض حظر إقليمي على قطر، واغتيال الصحفي المعارض، جمال خاشقجي، إلا أن الوضع تغير مؤخرا بعقد اتفاق مع إيران والتقارب مع تركيا، ولقاءات مباشرة مع الحوثيين في صنعاء، وأخيرا استضافة محادثات بين طرفي الحرب القائمة بالسودان.
فمع انزلاق السودان إلى الحرب، منتصف الشهر الماضي، أرسلت السعودية سفنا بحرية لإجلاء آلاف الأشخاص من الصراع، وتمكنت مؤخرا، بمبادرة مشتركة مع الولايات المتحدة، من جلب ممثلين عن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لإجراء محادثات، في أول محاولة جادة لإنهاء القتال الدائر منذ ثلاثة أسابيع والذي حول أجزاء من العاصمة، الخرطوم، إلى مناطق حرب وعرّض الانتقال السياسي الهش في البلاد للخطر بعد اضطرابات وانتفاضات استمرت لسنوات.
والأحد، أعلنت المملكة “تقديم مساعدات إنسانية متنوعة بقيمة 100 مليون دولار أميركي، وتنظيم حملة شعبية عبر منصة ‘ساهم’ لتخفيف آثار الأوضاع التي يمر بها الشعب السوداني حاليا”.
وترى “فاينانشال تايمز” أن السعودية تحاول محو ما اكتسبته من سمعة في السنوات الأخيرة كـ “صانعة للمشاكل” في المنطقة، بعد فترة انعزال بسبب اغتيال خاشقجي في قنصليتها في إسطنبول، عام 2018، وحول الأمير محمد بن سلمان إلى شخصية غير مرغوب فيها في العواصم الغربية.
يرى المحلل السياسي السعودي، مبارك آل عاتي، في حديثه مع موقع “الحرة” أن المملكة تريد أن “تكون صانعة للسلام بكل الوسائل”، مؤكدا أنه “من الملاحظ مؤخرا أن السياسة السعودية عددت من أساليبها وعادت باستخدام كل أنواع الدبلوماسية التي من شأنها أن تسهم في إطفاء حرائق المنطقة وحل قضاياها وعدم اللجوء فقط إلى تأجيل الخلاف أو تبريده انطلاقا من أن تطبيق رؤية المملكة 2030 تحتاج إلى تهيئة الظروف السياسية الداخلية والإقليمية والخارجية وإعادة علاقات المملكة السياسية مع كل المجتمع الدولي”.
وذكر آل عاتي أن “أهم اختراق حدث في الفترة الماضية، هو الاتفاق السعودي الإيراني تحت المظلة الصينية، ما أنهى حالة من العداء التاريخي كانت قائمة في المنطقة وكانت تمثل ساحة للابتزاز الدولي لكل دول المنطقة”.
وفاجأت المملكة الكثيرين بإعلانها، في مارس، موافقتها على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع خصمها اللدود إيران. ثم زار مسؤولون سعوديون اليمن في إطار حملة لإنهاء الحرب المستمرة منذ فترة طويلة ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من طهران. وبعد الدعوة إلى الإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد، ساهمت الرياض في الضغط لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، وهو ما حدث بالفعل، الأحد.
ويقول آل عاتي إن “الذكاء السياسي السعودي تمكن من تسجيل اختراق كبير في حديقتنا الخلفية عبر التوصل إلى هذا الاتفاق الذي حققت منه المملكة العديد من المكاسب من بينها إنهاء الخلافات في المنطقة وفتح آفاق للتعاملات السياسية والاقتصادية والتجارية وحتى الثقافية”.
ويرى أن هناك مكسبا إضافيا من هذا الاتفاق وهو أن “كل المنطقة كسبت النفوذ الصيني عبر تقديم الصين كدولة صانعة للسلام وراعية له وتعزيز الدور الصيني عبر المصالح الاقتصادية الكبيرة للصين مع السعودية وإيران ودول المنطقة”.
ويرى الزميل لدى معهد واشنطن المتخصص في قضايا دول الشرق الأوسط، ديفيد بولوك، أن تغير نهج المملكة من “التدخل في الحروب” إلى “الدفاع عن الذات” بحسب وصفه، يعود إلى عدة عوامل أهمها هو “عدم الثقة عند زعماء السعودية بالنسبة للدعم الأميركي في اليمن أو ضد إيران بشكل عام ولذلك بدؤوا في مبادرات من أجل الدفاع عن الذات، لأنهم يعلمون أنه بدون دعم أميركي أقوى فليس لدى المملكة القوة لمواجهة كل هذه المخاطر في المنطقة سواء من إيران أو الحوثيين أو أعداء آخرين”.
ويعزو بولوك أيضا تغير نهج المملكة إلى “الفشل السعودي في اليمن وانتصار الحوثيين، ولذا جاء الاتفاق بين طهران والرياض، كنوع من الصفقة التي بمثابة إعلان انتصار للحوثيين في اليمن مقابل عدم تنفيذ هجمات عبر الحدود”.
لكن بولوك يرى أن هذا التغير في نهج المملكة، “وإعلاء صوت الدبلوماسية سواء الاتفاق أو غيره (يصب في) مصلحة للمملكة بنهاية المطاف”.
وأضاف “أنا أختلف مع النظرية التي تقيّم كل هذه الخطوات كدليل على ضعف السعودية، بل هي دليل على ثقة متزايدة على تنفيذ مناورات مستقلة في السياسة الخارجية وأن الملك سلمان وولي العهد يريدان أن يثبتا أن القرارات بشأن منطقة الشرق الأوسط تُتَّخذ من الرياض وليس واشنطن، بل وأبعد من ذلك خاصة فيما يتعلق بالنفط”.
ويعتبر آل عاتي أن “هذا التغير في النهج السعودي دليل على ديناميكية القرار في المملكة وواقعيته وتفاعله مع متطلبات المرحلة”.
ويوضح “اليوم نجد أن المجتمع الدولي يشهد تغيرات دراماتيكية كبيرة جدا، سواء الحرب الروسية الأوكرانية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية أو أيضا من خلال التنافس الأميركي الصيني في المنطقة والذي كان ضاغطا على طبيعة العلاقات في المنطقة وجعل السعودية تتحرك سريعا لتدبر أمنها الوطني عندما لاحظت ورصدت الانكفاء الأميركي والخروج من المنطقة، ولذلك انفتحت السعودية كثيرا على الصين وروسيا والدول الكبرى مثل البرازيل وغيرها”.
وترى مجلة “فاينانشيال تايمز” أن نقطة تحول السعودية بعيدا عن السياسة الخارجية العدوانية، كانت في 14 سبتمبر 2019، عندما اخترق سرب من الصواريخ والطائرات بدون طيار إيرانية المنشأ الدفاعات الجوية الأميركية الصنع لضرب البنية التحتية النفطية الحيوية، مما أدى إلى توقف نصف إنتاجها النفطي مؤقتا”.
لكن آل عاتي، يقول إن “الرصد السعودي للسلوك الأميركي ليس وليد اللحظة ولا أعوام قليلة، وإنما في رأيي هو منذ أواخر عهد الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش الابن، حيث رصدت السعودية تغيرا كبيرا في السياسة الأميركية تجاه المنطقة ولعل العملية اتضحت كثيرا خلال رئاسة أوباما وتعامله مع ما سمي بـ”الربيع العربي” وكذلك تباطؤ ترامب في معالجة الهجمات التي شهدتها مواقع النفط أو من خلال المواقف السلبية التي اتخذها الرئيس الحالي، جو بايدن، منذ حملته الانتخابية”.
وأضاف أن “المخاوف السعودية تجاه السلوك الأميركي كانت تتعزز شيئا فشيئا إلى أن رأينا الخروج الأميركي من أفغانستان الذي أثبت بالفعل أن الولايات المتحدة تعتزم الرحيل من المنطقة وكان آخر علاماته سحب منصات الباتريوت في الوقت الذي كانت تتوالى فيها الهجمات الحوثية والإيرانية على المملكة”.
لكن بولوك يرى أن وجهة النظر السعودية بشأن التفاعل الأميركي في المنطقة والمزاعم حول انكفائها عنها ينطوي على “مبالغة”.
ويقول: “الحقيقة أن العلاقات السعودية الأميركية قائمة وقوية وضرورية للطرفين على الرغم من كل هذه الشكوك، لكن في نفس الوقت السعوديون لا يريدون أن يعتمدوا على الولايات المتحدة فقط دون بدائل، لذلك بدأت (المملكة) توسيع علاقاتها مع روسيا والصين وربما مع إسرائيل في المستقبل من أجل الدفاع عن الذات السعودية”.
وأكد أن الولايات المتحدة “لا تعارض الوساطة الصينية في الاتفاق الذي حدث بين الرياض وطهران، بالعكس واشنطن ترحب بتخفيف التوتر في المنطقة أيا كان الوسيط لكن الأهم هو النتائج”، مضيفا أن “النتائج حسب التقييم الرسمي الأميركي، فإنها إيجابية”.
وأضاف “من الصحيح أن هناك مواجهة بين أميركا وإيران، لكن واشنطن لا تريد صداما عسكريا بين إيران والمملكة، ولا توترا مستمرا بينهما، لأن هذا ليس في صالح أحد”.
وزار الرئيس الأميركي، جو بايدن، السعودية أخيرا، العام الماضي، للضغط من أجل المزيد من إنتاج النفط، متعهدا أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن المنطقة لروسيا والصين وإيران. لكن في غضون أشهر، هدد مرة أخرى بإعادة تقييم علاقة واشنطن بالمملكة بعد أن قادت المملكة مجموعة “أوبك بلس” لخفض إنتاج النفط.
وخفت حدة التوترات بين الرياض وواشنطن منذ ذلك الحين، وتواصل الولايات المتحدة ضمان أمن المملكة والسعي إلى تعاونها في مجموعة من القضايا، كان آخرها الصراع في السودان، حيث تتمتع السعودية بنفوذ مع الفصيلين العسكريين المتحاربين.
ويعول آل عاتي على زيارتين مزمعتين منفصلتين لمستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، ووزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للسعودية “وهذا يثبت أن العلاقات بين البلدين تحتاج إلى مراجعة وعلاج حقيقي ووضع أطر واضحة وكفيلة بإعادة العلاقات إلى دورها التاريخي خاصة أن السعودية لا تزال تعلن تمسكها بهذه العلاقات وأن هناك أرباحا متساوية بين الرياض وواشنطن من هذه العلاقة”.