في اليوم التاسع من الحرب في سوريا، دخلت قوات المعارضة مدينة حماة لأول مرة بعد خمسة أيام فقط من السيطرة على مدينة حلب.
فبعد ثماني سنوات عادت حلب لتُمثِّل نقطة التحول في مسار الثورة السورية مرة أخرى، بعد الهجوم الذي شنَّته الفصائل المسلحة في إدلب تجاه مناطق سيطرة قوات الحكومة، الذي أطلقت عليه “عملية ردع العدوان”، صباح الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث وصلت في اليوم الثالث إلى تخوم مدينة حلب وسيطرت على ما يقرب من 400 كيلومتر مربع ضمن 56 بلدة وقرية في حلب وإدلب، وفي اليوم التاسع من المعركة كانت قوات المعارضة داخل مدينة حماة لأول مرة.
في ديسمبر/كانون الأول 2016، انسحبت فصائل المعارضة السورية من آخر مناطق سيطرتها داخل محافظة حلب، أمام تقدم قوات الحكومة السورية مع ميليشيات متعددة الجنسيات حليفة لإيران، مدعومة بغطاء جوي روسي.
كانت تلك اللحظة بمنزلة نقطة التحول الرئيسية والفارقة في مسار الثورة السورية التي اندلعت في مارس/آذار عام 2011، فما أعقب ذلك كان جملة من الانسحابات المتتالية لفصائل المعارضة، سواء بالقتال أو بالمصالحة، انتهاء بتحييد المعارضة السورية المسلحة في حيز ضيق بمحافظة إدلب الحدودية مع تركيا، والواقعة في أقصى شمال غرب سوريا، في منطقة لا تتجاوز مساحتها 3000 كم مربع، وذلك بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا بعد محادثات مطولة في مارس/آذار 2020.
كان هذا الانهيار السريع لقوات الأسد بمنزلة مفاجأة لجميع المراقبين، حيث لم يسبق لمعارك الثورة السورية أن حُسمت بهذه السرعة، مما يطرح أسئلة حول قدرة المعارضة على إحكام السيطرة والاحتفاظ بهذه المساحات الواسعة من الأراضي التي حصلت عليها جملة واحدة.
ليس الأمس كاليوم..
معارك حلب التي حُسمت هذه المرة خلال ساعات كانت قد استغرقت في المرة الأولى قرابة 4 سنوات، من التقدم والانحسار المتبادل، في أرياف حلب وشوارع مدينتها، حتى استطاعت قوات الحكومة السورية حسمها لصالحها في ديسمبر/كانون الأول 2016.
دخلت حلب إلى خريطة الصراع المسلح لأول مرة في يوليو/تموز 2012، عندما بدأت فصائل معارضة الهجوم على المدينة انطلاقا من الأرياف المجاورة، وجرت الاشتباكات الأولى ليلة 19 يوليو/تموز حول حي صلاح الدين، جنوب غرب المدينة، بين قوات الأسد وقوات المعارضة التي كانت تُعرف بالجيش السوري الحر.
وفي 30 يوليو/تموز، كانت فصائل الثورة قد استولت على نقطة تفتيش إستراتيجية في بلدة عندان بشمال حلب، وأمّنت بذلك طريقا مباشرا بين المدينة والحدود التركية، مما جعلها تُمثِّل قاعدة مهمة لإمدادات الثوار عقب ذلك.
وبعد سنوات من المراوحة والاستنزاف المتبادل، وفي يوليو/تموز 2016، تمكنت قوات الحكومة السورية من قطع آخر خطوط الإمداد للمعارضة في حلب بدعم هائل وكثيف من الضربات الجوية الروسية. وكانت روسيا قد ألقت بثقلها في الحرب السورية منذ نهاية سبتمبر/أيلول 2015، حيث كان تدخلها بمنزلة عملية إنقاذ حاسمة لقوات الأسد التي كانت على وشك الانهيار، بحسب تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال لاحقا: “قبل تدخلنا كانت دمشق ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة”.
وخلال سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2016، شنَّت قوات المعارضة الموجودة خارج حلب عدة هجمات استهدفت قوات نظام الأسد المحاصرة لأحياء شرق حلب، غير أنها لم تنجح وفشلت في كسر الحصار. ثم كانت النهاية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، حين أطلقت القوات الحكومية حملة عسكرية شرسة سمّتها “عملية فجر النصر”، أسفرت عن سقوط حلب بالكامل تحت سيطرتها في ديسمبر/كانون الأول.
ثمة أسباب ميدانية عديدة يمكن أن تشرح جانبا من أسباب الانهيار السريع لقوات الحكومة السورية، فبحسب تقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز”، فقد سادت حالة من الشعور بالإحباط واليأس في الأوساط المؤيدة للأسد، بعد 13 عاما من اندلاع الحرب، لا سيما بين صفوف الجيش.
كانت سوريا على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي منذ سنوات، مثقلة بأعباء الديون غير المسددة للحلفاء الذين خاضوا معها الحرب. ففي 2023 قال حشمت الله فلاحت بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، إن سوريا مدينة لإيران بنحو 30 مليار دولار، وأشارت تقارير عديدة إلى أن إيران استغلت المطالبة بهذه الديون الهائلة للضغط على الحكومة السورية في ملفات متعددة مثل منح الإيرانيين جميع الحقوق المماثلة للمواطنين السوريين داخل سوريا.
كما أنه بعد انحسار العمليات العسكرية منذ 2020، لم تتحسن أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية، حيث استمر انهيار العملة المحلية وازدياد مؤشرات الفقر، وانتشرت مظاهر السخط العام، بما في ذلك بعض مناطق العلويين الداعمة لنظام الأسد، ففي 2023 انطلقت تظاهرات في مناطق سيطرة النظام احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية، بدأت من مدينة السويداء جنوبا، ذات الأغلبية الدرزية، وانطلقت لتشمل 7 محافظات بشكل متسارع.
وفي تصريح لـ”فايننشال تايمز”، قال أحد العلويين السوريين: “نحن مستعدون لحماية قُرانا وبلداتنا، لكنني لا أعلم ما إذا كان العلويون سيقاتلون من أجل مدينة حلب، لقد توقف النظام عن إعطائنا أسبابا للاستمرار في دعمها”.
لقد صارت الخدمة الاحتياطية في الجيش خلال السنوات الأخيرة عبئا على المجندين وعلى النظام في آنٍ واحد، نظرا للإرهاق المادي الهائل الناتج عن تمديد مدة الخدمة، مما دفع الجيش السوري في منتصف العام الجاري إلى الإعلان عن بدء خطة لتسريح قوات الاحتياط، على 3 مراحل، تبدأ من يوليو/تموز 2024 وتنتهي في أكتوبر/تشرين الأول 2025، مع تسهيل دفع “بدل مالي” يبلغ نحو 3000 دولار لمَن يُفضِّل عدم الانخراط في الخدمة العسكرية.
يُضاف إلى ما سبق أن كثيرا من مجندي الخدمة الاحتياطية لا يخدمون في مدنهم ولا قراهم، بل يُنقلون إلى مناطق بعيدة للخدمة فيها، مما يقلل من الشعور بالانتماء للمنطقة التي يجب عليهم الدفاع عنها، وهو ما يفسر، جزئيا، حالة الانسحاب السريع لكثير من قوات الأسد دون قتال.
المعارضة أيضا ليست كما كانت
في الإستراتيجية العسكرية، ثمة مبدأ رئيسي هو “وحدة القيادة”، فكفاءة القتال والاستخدام الأمثل للموارد في مسرح العمليات يتطلب قيادة مركزية تحدد التوجهات، وتضبط التحركات، وتنسق بين الوحدات المختلفة بما يخدم الإستراتيجية العامة للحرب. كانت إحدى الثغرات الرئيسية لقتال المعارضة السورية في سنواتها الأولى هو تعدد القيادات وتعارض الخطط بشكل قد يصل إلى التعارض أحيانا.
على سبيل المثال، في معارك حلب الأولى، وقعت حوادث اقتتال بين الفصائل، أبرزها هجوم فصائل “حركة نور الدين الزنكي” و”كتائب أبو عمارة” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 على مقاتلي “تجمع فاستقم كما أمرت”، الذي يضم مقاتلين من أبناء مدينة حلب، وتمكنت “الزنكي” و”أبو عمارة” من السيطرة على جميع مقرات التجمع في القسم الشرقي من مدينة حلب، كان هذا يجري داخل أحياء حلب الشرقية المحاصرة بينما تدور معارك ضارية في غرب حلب لمحاولة فك حصار القوات الحكومية المضروب عليها. وفي الأثناء ذاتها، انشغلت فصائل ريف حماة وإدلب بصراعات دامية خاضتها ضد فصيل “جند الأقصى” المقرب من تنظيم الدولة “داعش”.
هذه المرة عادت الفصائل بوجه غير الذي ذهبت به، فدخلت فصائل إدلب الحرب كما لو كانت جيشا نظاميا، حيث بدا الانضباط والتنسيق الواضح في خطوط سير العمليات العسكرية، من خلال قيادة موحدة تخضع لما يسمى “إدارة العمليات العسكرية”.
كانت الفصائل المتبقية في إدلب قد أسست في 2019 “غرفة عمليات الفتح المبين” لتكون مسؤولة عن تنسيق العمليات في شمال سوريا، وفي منتصف عام 2020، اتخذت “هيئة تحرير الشام” قرارا بتوحيد الجهد العسكري، ومنع تشكيل أي فصيل عسكري أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وحصرت الأعمال العسكرية في “غرفة عمليات الفتح المبين”. لم تكن عملية توحيد الجهد العسكري سهلة، بل لاقت معارضة من أطراف مختلفة، لكن الهيئة استطاعت حسمها بشكل ملحوظ.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ظهرت “إدارة العمليات العسكرية” لتضم كلًّا من هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، ومجموعات من الحزب التركستاني، وهي التي دشنت معركة “ردع العدوان”.
بيد أن التحولات الإيجابية التي جرت في جانب الفصائل المسلحة لم تقتصر على نمط القيادة فقط، بل تطورت أيضا القدرات العسكرية بشكل لافت من حيث مستويات التسليح والأنماط التكتيكية. على وجه الخصوص ظهرت الطائرات المسيرة المصنعة محليا من طراز “شاهين” منذ اليوم الأول لانطلاق المعركة، كما نشرت “إدارة العمليات العسكرية” مقطعا مصورا يُظهر مسيرات أخرى تحمل اسم “سرايا العقاب”.
وأعطت هذا المسيرات فرصة لقوات المعارضة لتنفيذ عدة عمليات نوعية، منها استهداف رئيس فرع الأمن العسكري في مدينة حماة يوم الأحد الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، واستهداف تجمع كبير لضباط الحكومة السورية في قمة جبل زين العابدين بشمال حماة، بحسب بيانات غرفة العمليات.
فضلا عن ذلك، تمكنت المعارضة من السيطرة على مخازن أسلحة ضخمة تضم أسلحة نوعية مثل الصواريخ المضادة للدروع الموجهة آليا، ومطارات عسكرية، وقذائف صاروخية، وراجمات صواريخ، وما يزيد على 100 دبابة، على إثر السيطرة على مواقع عسكرية مهمة، أبرزها مطار حلب العسكري، ومطار كويرس، والفوج 46، والفوج 80 دفاع جوي.
وشملت المعدات المضبوطة في قاعدة كويرس العسكرية مروحية من طراز “مي-8″، وطائرة تدريب قتالية من طراز “إل-39″، كما أشارت تقارير إلى أن منظومة صواريخ مضادة للطائرات من طراز “إس-200″، إلى جانب أنظمة الدفاع الجوي “ستريلا-10” و”بانتسير-إس1″، أصبحت بحوزة المعارضة.
المعادلة الداخلية وحدها لا تكفي!
منذ 2013، وربما قبل ذلك، لم تعد الثورة السورية شأنا سوريا داخليا خالصا. ولذا فإن تقييم معادلة القدرات والاستعدادات العسكرية والإستراتيجية بين قوات الأسد وقوات المعارضة لا يكفي لاستشراف مستقبل المعارك الجارية.
ورغم أن أطرافا عدة تحمل مصالح متباينة داخل سوريا، وبصفة خاصة إيران التي أطلق مرشدها، علي خامنئي، فتاوى بالجهاد في سوريا، قائلا: “نحن في سوريا نقاتل ضد الكفر”، مما أعطى لبلاده القدرة على التعبئة الأيديولوجية لعشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة، من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها، الذين يقاتلون دعما لقوات الأسد.
كذلك تركيا، التي يسود اعتقاد لدى قادتها السياسيين أن توسيع مساحات سيطرة المعارضة بات هو الطريق الوحيد لضمان العودة الطوعية لمزيد من اللاجئين السوريين، الذي يُشكِّلون عبئا كبيرا على التوازنات السياسية الداخلية في تركيا، بعد تعثر محاولات التطبيع مع بشار الأسد بوساطة روسية.
لكن خبرة 13 عاما من الثورة في سوريا تكشف أن الدعم الإيراني لم يمنع قوات المعارضة، في أوضاع أصعب مما هي فيه الآن، من أن تصل إلى مشارف دمشق وأن تسيطر على قرابة 80% من مساحة البلاد، غير أن طرفا آخر كان تدخله حاسما، وهو روسيا.
عندما نجحت القوات الجوية الروسية في دعم استعادة حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016، أظهرت فعالية حاسمة في سوريا، وعززت دورها باعتبارها الفاعل الخارجي الأكثر قدرة على توجيه موازين القوى والتأثير في مسار الحرب، متغلبة على جهات فاعلة أخرى مثل الولايات المتحدة، التي ركزت بشكل ضيق على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وتركيا، التي كانت مشغولة آنذاك باحتواء القوات الكردية بالقرب من حدودها مع سوريا.
وبالتالي، فإن خسارة حلب، بحسب وصف مجلة “فورين بوليسي”، لا تُمثِّل نكسة عسكرية للحكومة السورية فحسب، بل تُمثِّل تحديا رمزيا لادعاء روسيا بأنها قادرة على تشكيل مستقبل سوريا. ففي حين ظل حضور القوات الجوية الروسية في سوريا متسقا نسبيا مع مستوياته في عام 2018، لكن إعادة انتشار بعض القوات البرية في العامين الماضيين لتأمين مواقع إستراتيجية لروسيا مثل طرطوس واللاذقية قلَّلت من مرونتها في التعامل مع التهديدات الجديدة بشكل فعال.
كشف رد روسيا على هجوم المعارضة عن تعثر عملياتي ضخم. فعندما بدأ الهجوم على حلب، لم تترك سرعة ومفاجأة التقدم لموسكو سوى القليل من الوقت لتنظيم الدعم الجوي الفعال، وبحلول الوقت الذي اقتربت فيه فصائل المعارضة من حماة، تمكنت القوات الروسية من شن حملة جوية أكثر تنسيقا، حيث ضربت الطائرات الروسية والسورية مواقع المعارضة في بعض أنحاء حماة وحلب وإدلب.
بيد أن ثمة ما هو أخطر مما جرى في حلب، وهو تحديدا ما يجري الآن من تقدم قوات المعارضة داخل حماة، حيث تُعقِّد سيطرة المعارضة على حماة الموقف الإستراتيجي لروسيا بشكل بالغ، فقد يؤدي ذلك إلى عزل المحافظات الساحلية، حيث تقع مدينة حماة على بُعد نحو 80 كيلومترا، وتعمل تقاطعا رئيسيا يربط الداخل بساحل البحر الأبيض المتوسط.
وفي الوقت نفسه، فإن الدفع نحو مدينة حمص، على بُعد نحو 110 كيلومتر من اللاذقية و80 كيلومترا من طرطوس، من شأنه أن يقطع الرابط البري لقواعد روسيا على البحر الأبيض المتوسط في اللاذقية وطرطوس عن قواتها المحدودة في وسط سوريا وشرقها. وقد يتدهور الوضع أكثر إذا أعادت المعارضة تنظيم صفوفها في جنوب سوريا، حيث تحتفظ روسيا بوجود عسكري هناك، وخاصة في محافظتي القنيطرة ودرعا بالقرب من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.
بيد أن تقريرا نشره معهد دراسات الحرب في واشنطن، في 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قال إن صورا للأقمار الصناعية كشفت أن روسيا قامت بسحب كامل أسطولها البحري الموجود في قاعدة “طرطوس”، وأظهرت الصور إخلاء ثلاث فرقاطات حربية وغواصة وسفينتين مساعدتين من القاعدة البحرية، وهو ما يعادل جميع السفن الروسية التي كانت متمركزة في طرطوس، بحسب التقرير.
وفي حين تتجه بعض التحليلات إلى أن ذلك قد يشير إلى عدم نية موسكو إرسال تعزيزات كبيرة لدعم بشار الأسد، ترى تحليلات أخرى أن هذا التحرك عائد إلى تدريبات عسكرية روسية تم التخطيط لها في وقت مسبق، وأن هذا لا يعني تخلٍّ روسي عن المكتسبات التي حققتها. وعلى كل حال، ستبقى الحرب على أوكرانيا هي أولوية موسكو في الوقت الراهن، إذ تأمل روسيا أن تصل إلى تسوية قريبة لها مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتسعى موسكو خلال الشهور القادمة لتعزير وضعيتها في أوكرانيا إلى أقصى أفضلية ممكنة استعدادا لبدء المفاوضات المحتملة.
وإجمالا، تبدو جميع الظروف المحلية والإقليمية في صالح المعارضة السورية أكثر مما كانت عليه من قبل، فحزب الله يلملم جراحه على إثر حرب طويلة استنزفت الكثير من قدراته ووقف إطلاق نار هش ينتظر شرارة عودة القتال مرة أخرى، وإيران أيضا ليست في موقف جيد، حيث تتعرض إستراتيجيتها العسكرية ونفوذها الإقليمي لأصعب اختبار منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية في 1988.
فلم تنتهِ بعد تسويات حرب “طوفان الأقصى”، وليس معروفا على وجه الدقة هل ستسمح الظروف الإستراتيجية لإسرائيل باستهداف البرنامج النووي الإيراني كما هدد نتنياهو، وإلى أي مدى سوف يُصعِّد ترامب ضغوطه على إيران للتنازل عن البرنامج النووي الذي يبدو أنه لم يعد رفاهية لإيران يمكنها التخلي عنه بسهولة، بل قد يكون أداتها الوحيدة لتحسين ميزان الردع مع إسرائيل.
إلى أين يمكن أن تسير المعركة؟
تطوير الهجوم ليس قرارا إيجابيا دوما، فمن الأخطاء الكلاسيكية في الحروب توسيع مسرح العمليات وتصعيد الأهداف العسكرية بما يفوق قدرة القوات المهاجمة على إحكام السيطرة، أو بما يُعقِّد مسار الحرب بحيث لا يسمح للطرفين بالتفاوض، خاصة إذا لم يكن الطرف المهاجم قادرا على الانقضاض على مراكز ثقل الخصم وشل قدراته بشكل كامل. ومع ذلك، ففي حالات أخرى يُعطي تطوير الهجوم ميزة إضافية، حيث يقلل من خيارات الخصم، ويضعف من الروح المعنوية لجنوده وقواته، مما يسرّع من الانهيارات المتتالية.
وسيكون وصول المعارضة إلى حماة وحمص اختبارا جادا لمدى استعداد روسيا لتقديم الدعم لبشار الأسد أو التخلي عنه، وفي حال قررت روسيا إثبات قدرتها على الاحتفاظ بالدور الحاسم في سوريا، فإن أمام المعارضة أوقاتا صعبة ستتعرض فيها لهجمات انتقامية قد تصعب على فصائل المعارضة من التوسع، فضلا عن الحفاظ على بعض المناطق في حال قررت موسكو شن هجمات مثيلة لما قامت به سابقا من الاستهداف الواسع للمدنيين والبنى التحتية.
لكن هذا المعطى رهين استعداد فصائل المعارضة لمثل هذه الهجمات في ظل الخبرات التي راكمتها سابقا، خاصة بعد سيطرتها على عدد من المنظومات الدفاعية الجوية.
أما إذا قررت روسيا من تلقاء نفسها التخلي عن دعم بشار الأسد، أو على الأقل الاكتفاء بضمان سلامة قواعدها العسكرية، أو استطاعت تركيا الوصول معها إلى اتفاق تهدئة جديد على أرضية مختلفة تكون فيها مساحات أراضي المعارضة أكبر من ذي قبل، فستكون ثمة فرصة إستراتيجية هائلة للثورة السورية للاحتفاظ بوضعية إستراتيجية متقدمة.
إذن مرة أخرى، تدور الدائرة وتعود الحرب في سوريا لسيرتها الأولى، حيث تبدو المعادلة الداخلية محسومة لصالح المعارضة حتى وإن طال الوقت، أما العنصر الخارجي فهو بالتأكيد أكثر قدرة من النظام السوري على حسم مسار الحرب، وتحديد وجهتها النهائية.