حققت فرنسا إنجازًا مهمًا في أبحاث الاندماج النووي حيث حافظ مفاعل “ويست” الواقع جنوبي البلاد على حالة البلازما لمدة 1337 ثانية، أو ما يقرب من 22 دقيقة و17 ثانية، مجاوزا الرقم القياسي السابق الذي سجله مفاعل “إيست” الصيني والذي حافظ على البلازما لمدة 1066 ثانية.
والفكرة في الاندماج النووي أن يقوم العلماء بدمج نواتَيْ ذرتين معا، فيتحولان إلى عنصر آخر، وأثناء هذه العملية يصدر قدر من الطاقة، وهي نفسها العملية التي تحدث في باطن الشمس بشكل طبيعي، ولذا تسمى مفاعلات الاندماج النووي عادة بالشموس الصناعية.
تثبيت البلازما
ولإحداث اندماج نووي في مكان آخر غير باطن النجم، يجب أن يتحايل العلماء للوصول إلى تلك الدرجات المرتفعة جدا من الحرارة، والأصعب من ذلك الحفاظ عليها، حيث تُستخدم مغانط كهربائية فائقة التوصيل (مبردة بالهيليوم السائل) لكي تحصر البلازما في شكل حلقة ذات درجة حرارة هائلة.
والبلازما حالة للمادة لا تظهر إلا تحت درجات حرارة شديدة، وفيها تنسلخ الإلكترونات وتسبح حول أنوية ذرات المادة بحرية. وتعد ضرورية لإيجاد حالة الاندماج النووي في تلك المفاعلات.
وتُستخدم هذه المغانط أيضا لتثبيت البلازما بحيث لا تتلامس حتى مع جدران المفاعل، لأن ذلك لو حدث فإنها مع درجة الحرارة تلك ستخترق جدران المفاعل فورا، ويتوقف الاندماج النووي.
ولكي يحدث الاندماج النووي، يجب تسخين البلازما إلى درجات حرارة عالية للغاية، في حدود 50 مليون درجة مئوية أو أكثر، للتغلب على القوى التنافرية بين أنوية الذرات التي يرجى دمجها معا.
ويعد الحفاظ على البلازما مستقرة لفترات طويلة تحديًا هائلاً في أبحاث الاندماج النووي، فكلما طالت فترة حصر البلازما والتحكم فيها، أصبح من الممكن تسخير الطاقة الناتجة عن تفاعلات الاندماج.
ولذلك فإن الإنجاز الأخير الذي حققه مفاعل “ويست” يعد تقدمًا كبيرًا في هذا المجال، مما يشير إلى أن الباحثين يطورون التقنيات والفهم اللازمين للحفاظ على حالات البلازما المواتية لإنتاج الطاقة المستمرة.
ورغم ذلك تظل هناك العديد من التحديات، فحاليًا تتجاوز الطاقة المطلوبة لبدء تفاعلات الاندماج واستمرارها الطاقة المنتجة، مما يعني أن تلك المفاعلات تستهلك الطاقة، ويركز الباحثون حاليا على تحقيق ناتج طاقة إيجابي صافٍ، حيث يولد المفاعل طاقة أكثر مما يستهلك.

مستقبل أنقى
وفي الواقع، يُطلِق تفاعل الاندماج النووي ما يقرب من 4 ملايين ضِعْف الطاقة الناتجة عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث أثناء احتراق الفحم أو النفط أو الغاز، و4 أضعاف الطاقة الناتجة من تفاعلات الانشطار النووي، مما يعني أنه مع نجاح تلك التجارب فإن المفاعلات الاندماجية ستوفر كما هائلا من الطاقة لسكان كوكب الأرض.
وأضف إلى ذلك أن وقود الاندماج النووي يتوفر على نطاق واسع ولا ينضب تقريبا، لأنه يمكن تقطير الديوتيريوم (أحد العناصر المستخدمة في الاندماج) من جميع أشكال الماء، مثل ماء البحر.
وينتج التريتيوم (وهو عنصر آخر يستخدم في الاندماج النووي) أثناء تفاعل الاندماج النووي نفسه بسبب تفاعل مع الليثيوم، لذلك قد يؤدي استخدام طاقة الاندماج النووي -حال نجح الأمر يوما ما- إلى خفض أسعار الكهرباء عالميا انخفاضا ملحوظا.
كما أن معايير الأمان في هذا النوع من التجارب مرتفعة جدا، ببساطة لأن الاندماج النووي لا يستخدم مواد انشطارية مثل اليورانيوم والبلوتونيوم، فالتريتيوم ليس مادة انشطارية وليس قابلا للانشطار، ولا توجد مواد مخصبة في مفاعلات الاندماج النووي يمكن استغلالها لصنع أسلحة نووية.
وعلاوة على ذلك لا يسمح هذا النوع من التفاعلات بوقوع حوادث نووية من نوع “فوكوشيما” (حادثة التسريب عام 2011) لأنه في حال حدوث أي اضطراب تبرد البلازما في غضون ثوانٍ ويتوقف التفاعل كليا، ولا يوجد خطر من حدوث تفاعل متسلسل. من جانب آخر لا تُنتج مفاعلات الاندماج النووي نشاطا عاليا ونفايات نووية طويلة العمر.
وبالطبع لا يمكن أن تنبعث سموم ضارة من التفاعلات الاندماجية مثل ثاني أكسيد الكربون أو الغازات الدفيئة الأخرى في الغلاف الجوي. ويُعَدُّ المنتج الثانوي الرئيسي لهذا النوع من التفاعلات هو الهيليوم، وهو غاز خامل وغير سام. وفي النهاية، حتى في “أسوأ السيناريوهات” المفترضة، مثل حدوث حريق في المفاعل، لن يكون إخلاء السكان المجاورين ضروريا.
ولذلك فإن الأبحاث والتجارب جارية على قدم وساق في أماكن متعددة حول العالم، ويعتقد العلماء أن بحلول عام 2040 ستبدأ بعض دول العالم في استغلال طاقة الاندماج النووي لتوريد الكهرباء إلى مُدنها.