في إطار سلسلة جديدة من جرائم الاحتيال الإلكتروني، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة قوية بيد المحتالين، وهذا أدى إلى ارتفاع كبير في عمليات الاحتيال المالي. ومن أشهر هذه الجرائم انتحال هوية الملياردير الأميركي إيلون ماسك، وخداع آلاف الضحايا حول العالم، وفقا لما ذكره تقرير في صحيفة نيويورك تايمز.
يحكي التقرير قصة أحد ضحايا هذه العمليات، وهو شخص متقاعد عن العمل يبحث عن فرصة لاستثمار مدخراته، فشاهد مقطع فيديو لإيلون ماسك يتحدث فيه عن فرصة استثمارية مثيرة. ولأنه يثق في ماسك، بدأ باستثمار مبلغا بسيطا نحو 248 دولارا، إلا أنه على مدار الأسابيع التالية استنزف مدخرات تقاعده، وخسر في النهاية أكثر من 690 ألف دولار في عملية احتيال ممنهجة.
عدّل المحتالون هذا الفيديو، الذي ظهر فيه إيلون ماسك، من مقابلة سابقة له في أحد البرامج، لكنهم استبدلوا صوته بنسخة مطابقة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتمكّنت تلك التقنيات من تغيير حركات الفم بدقة لتتناسب مع النص الجديد الذي كتبوه للنسخة الرقمية المزيفة من إيلون ماسك.
التزييف العميق
هذه الظاهرة، المعروفة باسم تقنية “التزييف العميق” (deepfake)، انتشرت بكثافة خلال الفترة الماضية، وهي تظهر مقاطع فيديو مختلفة لنسخة مزيفة من إيلون ماسك تحاول خداع المستثمرين. ومن المتوقع أن تساهم هذه الفيديوهات المزيفة في خسائر بمليارات الدولارات من جراء عمليات الاحتيال كل عام، وفقا لتقديرات شركة “ديلويت”. وبهذا تدفع عمليات الاحتيال الإلكتروني إلى مستوى جديد، وهذا يخلق أزمة تعاني الجهات الأمنية في احتوائها.
ولا يكلف إنتاج هذه المقاطع المصورة سوى بضع دولارات فقط، ويمكن إنتاجها في دقائق. كما يُروَّج لها على وسائل التواصل الاجتماعي بعدة أساليب، ومنها الإعلانات المموّلة على فيسبوك، وهذا يضاعف من انتشارها، كما أشار تقرير نيويورك تايمز.
وأوضح فرانشيسكو كافالي، المؤسس المشارك ورئيس قسم استخبارات التهديدات في شركة “سينسيتي” -وهي شركة تراقب وتكتشف عمليات التزييف العميق- أنه “ربما نشهد أكبر عمليات احتيال قائمة على التزييف العميق على الإطلاق”.
كما يشير التقرير إلى أن مقاطع الفيديو غالبا ما تكون واقعية بدرجة كبيرة، بحيث تجسد نبرة صوت وأسلوب كلام إيلون ماسك الشهير ولهجته الجنوب أفريقية.
ويبدأ المحتالون باستخدام مقطع فيديو حقيقي لماسك، كمقابلة أجراها مع أحد الصحف أو البرامج مثلا، ثم يتلاعبون بحركات الفم باستخدام تقنيات مزامنة الشفاه، التي تعدّل طريقة تحدث الشخص. بعدها يضيفون صوتا بالذكاء الاصطناعي عبر أدوات استنساخ الصوت، التي تتولى نسخ أي صوت من أي مقاطع فيديو سابقة.
وقد يكون المنتج النهائي، الذي قد يتضمن صورا مزيفة تُحاكي مؤسسات إخبارية، مقنعا للغاية بالنسبة لمستخدمي الإنترنت العاديين.
انتشار واسع النطاق
ووفقا لشركة “سينسيتي”، التي حللت أكثر من ألفي مقطع فيديو من مقاطع التزييف العميق، كان السيد ماسك هو أكثر المتحدثين انتشارا في هذا النوع من المقاطع. وتوصلت الشركة إلى أنه ظهر في نحو 25% من إجمالي مقاطع الفيديو المزيفة منذ أواخر العام الماضي. كما ظهر في نحو 90% من مقاطع الفيديو التي ركزت على العملات الرقمية.
لكن لم يقتصر الأمر على ماسك وحده، فقد ظهر في هذه المقاطع وارين بافت وهو أحد أشهر المستثمرين عالميا، وكذلك جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون، وفق ما ذكرت نيويورك تايمز.
نطاق هذه العمليات الاحتيالية واسع للغاية، إذ يكشف البحث في مكتبة إعلانات فيسبوك عن مئات الآلاف من الإعلانات المرتبطة بمقاطع الفيديو المزيفة، التي ظهر في العديد منها إيلون ماسك. كما امتلأ موقع يوتيوب أيضا بهذا النوع من المقاطع، التي تستخدم غالبا علامة توحي بأن الفيديو هو “بث مباشر”، لكنه في الواقع فيديو مزيف ومُسجّل مسبقا.
وذكرت منصة يوتيوب في بيان أنها حذفت أكثر من 15.7 مليون قناة، وأكثر من 8.2 ملايين مقطع فيديو، لانتهاك قواعدها الإرشادية في الفترة بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار من هذا العام، ومعظمها ينتهك سياساتها ضد المحتوى الدعائي الخادع.
ودفع انتشار الإعلانات المزيفة على فيسبوك أندرو فوريست، وهو ملياردير أسترالي استُخدمت مقاطعه في إعلانات مزيفة على المنصة، إلى رفع دعوى مدنية ضد شركة ميتا، جراء إهمالها في كيفية إدارة نشاطها الإعلاني. وزعم أن هذه الإعلانات على فيسبوك أغرت المستخدمين الأبرياء بالمشاركة في استثمارات ضارة، وفقا لتقرير نيويورك تايمز.
وكان رد شركة ميتا أنها تدرب أنظمة الكشف الآلي لرصد عمليات الاحتيال على فيسبوك، ولكنها أشارت أيضا إلى مدى صعوبة هذا الأمر، إذ يغيّر المحتالون من تكتيكاتهم باستمرار للإفلات من عملية الرصد.
صعوبة الاكتشاف
وتنتشر على الإنترنت الآن تقارير مماثلة لأشخاص تعرضوا لعمليات احتيال من هذا النوع وخسروا آلاف الدولارات، وفقد بعضهم مدخرات حياته. وفي مايو/أيار الماضي، أصدرت هيئة الأوراق المالية والعقود الآجلة في هونغ كونغ تحذيرا من عمليات الاحتيال المتعلقة بمقاطع فيديو يظهر بها إيلون ماسك.
وفي مرحلة سابقة من هذا العام، حذّرت لجنة التجارة الفدرالية ومكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي إي) المواطنين الأميركيين من ارتفاع وتيرة الجرائم السيبرانية وعمليات الاحتيال التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وفقا للتقرير.
وذكر مكتب التحقيقات الفدرالي في بيان له: “يستفيد المحتالون من الذكاء الاصطناعي كعامل يضاعف قوتهم بأساليب تزيد من فعالية الهجمات الإلكترونية وغيرها من الأنشطة الإجرامية الأخرى مما يصعب اكتشافها”.
يشير تقرير نيويورك تايمز إلى انتشار هذه العمليات أكثر، بمقاطع الفيديو التي يظهر بها إيلون ماسك، منذ العام الماضي، خاصة بعد انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة وإتاحتها أمام الجميع، مما يسمح لأي شخص باستنساخ أصوات المشاهير أو تعديل مقاطع الفيديو بدقة عالية.
ويشير خبراء المجال إلى أن مقاطع الفيديو التي ينتجها الذكاء الاصطناعي ليست مثالية، إذ قد يبدو صوت ماسك آليا في بعضها، كما أن فمه لا يتماشى دائما مع كلماته. لكنها تبدو مقنعة بما يكفي لبعض الأشخاص المستهدفين من عملية الاحتيال، كما أن مستوى المقاطع يتحسن بمرور الوقت.
ووفقا لشركة “سينسيتي”، فإن تكلفة إنشاء مثل هذه الفيديوهات لا تتعدى 10 دولارات، كما يمكن جمع مقاطع الفيديو المزيفة باستخدام عدة أدوات مجانية ورخيصة في أقل من 10 دقائق. وغالبا ما يستهدف المحتالون مستخدمي الإنترنت من كبار السن ممن قد يعرفون العملات الرقمية أو الذكاء الاصطناعي أو إيلون ماسك، ولكنهم ليسوا على دراية بأكثر الطرق أمانا للاستثمار، كما أشار التقرير.
هذا التطور في تقنيات الذكاء الاصطناعي وفي تقنية التزييف العميق كشف عن بُعد جديد وخطير لعمليات الاحتيال الإلكتروني، ومع استمرار تطور التقنية، يجب أن تتطور أيضا أساليب حماية الأشخاص من هذه الحيل الخداعية.