في عام 2009، في عرصة مسجد أسامة بن زيد في حيّ عرفات، في نواكشوط، جلسَ مساءً شابان رثّا الهيئة شَعِثا الشعر، يلبسان ثيابًا فضفاضة، يردد أحدهما أبياتًا من ألفية بن مالك في علم النحو، ويعيد الآخر الشرح الذي سمعاه من شيخهما ذلك الصباح، هذا شيء يسميه طلاب التعليم التقليديّ “التكرار” حيث يعيد أحد الطلاب الدرس على زملائه لغرض التثبيت. وهو أسلوب عتيق، درس به أئمة العلم منذ نشأة المدارس في الحضارة الإسلامية قبل 11 قرنًا. أتمّ الشابان درسهما، وكنتُ أحدهما. فأخذنا نستذكر شيئًا من شعر نزار. لم يكن شيء من أسباب الترفيه متوفرًا لطلاب التعليم التقليدي في تلك البيئة، سوى الشعر وكثير من الخيال. بينا نحن كذلك إذ مرّ من أمامنا رجلٌ أصلع، ذو لحية حمراء كبيرة، يرتدي درّاعة نظيفة، ويحمل في يده حقيبة تبدو لجهازٍ محمول.
“مَن هذا الرجل، كثيرا ما أراه يصلي معنا؟” سألتُ صاحبي وأنا أضع لوحي الخشبيّ الذي كتبت عليه عشرة أبيات من الألفية جانبًا
فقال لي: “تعرف المختار بن بونا الذي نقرأ شرحه على الألفية؟!”
“أليس هو القائل في تبيين النموذج الشنقيطي البدوي لحمل العلوم الإسلامية:
قد اتخذنا ظهور العيسِ مدرسةً ** بها نبيّن دين الله تبيانا
[والعيسُ: الإبل البيض]”؟
“بلى، وهذا الرجل ذو اللحية الحمراء، اسمه أحمد مزيد، وهو حفيده!”
عرفت شيئًا عنه في ذلك الوقت، ولم أتعرف إليه. غادرتُ نواكشوط ولم يجمعني به مجلس، مع أننا كنا جيرانًا.
كان المختار بن بونا الجكني (المتوفى بداية القرن الثالث عشر الهجري/القرن التاسع عشر الميلادي) ممن أحيا العلوم الإسلامية في بادية شنقيط، وصيّر “ظهور العيس” جامعةً متنقلة. وسيأتي الحفيد بعد قرنين، ليحمل علوم الشناقطة إلى العالم، ولكن على ظهور عيس رقميّة ويمتطي صهوة النت.
بعد خمس عشرة سنة، سيتصل سببي بسببه، ولكن على بعد آلاف الأميال من موريتانيا؛ في الدوحة.
في أحد المجالس الثقافية اجتمعتُ به مصادفةً، كنا نتحدث عن أفضل الأجهزة اللوحية لقراءة الكتب، فأخرج من حقيبته جهازًا لوحيًّا وأخذ يصف ميزاته، كان يتحدث بحماسة مفرطة، ويوصي الجميع باقتنائه. حين خرجنا قال لي صديقي البريطاني: لقد رأيتُ شيئًا لم أره منذ مدة طويلة!” أجبته مازحًا “تقصد أن يحاضر بدويٌّ مدنيين عن التقنية؟!”
لم يتفاعل مع مزحتي أو يضحك، بل قال بجديّة عالية “لا لا، لقد كانت عيناه تلمعان حماسة وهو يتحدث عن التقنية المتعلقة بالكتب، هل تعرف ما معنى أن يحافظ رجلٌ ستينيّ على حماسته للأشياء المتعلقة باهتمامه؟ هذا أمرٌ هائل!”
طلبت من الشيخ مزيد، أن أحاوره، فأبى، متذرعًا بأن ليس لديه ما يُقال. هذا هو الرد التقليديّ. فمما يغلب على أخلاق الشناقطة، أنهم يعيشون حالة من نكران الذات كثيرًا ما تضر بهم. بعد إصرارٍ وإلحاح استمرّ لأشهر أجابني بما يشبه أن يكون قبولًا للحوار.
لا تستطيع أن تواعدَ شنقيطيًّا في مقهى، لسببين: أن المقاهي في العادة لا تقدّم الأتاي (= الشاي الأخضر) على الطريقة الموريتانية، وأن المقاهي تمنعك من الاتكاء، و”الموريتاني الأصيل، هو الإنسان الوحيد الذي يولد دون عمود فقري” كما يحكي روائيهم أحمد فال ولد الدين الرمضاني في روايته “الحدقي”. لذلك كان موعدنا في دار أحد قرابته.
ولد أحمد مزيد البوني عام 1969 في قرية القويسي التابعة لمقاطعة الركيز بولاية الترارزة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية. ونشأ في أسرة علم، وكانت أسماء أجداده تتكرر على مسامعه، خاصة اسم المختار بن بونا، الذي يقترن اسمه باسم ابن مالك، بسبب وضعه للطرة على الألفية، وهي تعليقات وضعها العلامة المختار بن بونا الجكني، على الألفية ونظمه المعروف بالاحمرار، الذي تضمن زيادات على ما في ألفية ابن مالك. “أنت ابن المختارين [أجداده العلماء] ولا بد أن تكون شيئًا كبيرًا” كان يسمع هذا في صغره، فانغرست فيه بذرة ستؤتي أكلها بعد حين.
أمام إحدى فلل إزدان في الدوحة، أوقفت سيارتي عشاءً، فتحت الباب بعد طرقتين، فبيوت الشناقطة خِيَم من الطوب والإسمنت لا ينبغي أن يتوقف الزائر عند بابها لإذن الدخول. استقبلتني رائحة اللحم التي تعد بعشاء فخم. (إذا لم تشم رائحة اللحم الفواحة عند زيارتك المسائية لبيت شنقيطي، فاعلم أنه سيقدم لك صحنا كبيرا من المعكرونة الخالية من البهارات).
خرج الشيخ بوجهه البسّام، بلباس خفيف يسمونه “الشِقّة” وهي صيغة مخففة من الدرّاعة، وكان حاسر الرأس. لا يعتمّ الشيخ غالبًا فهو على مذهب علماء المغرب والأندلس في التخفف من العمامة. وقد تشدد فيها المشارقة حتى عدَّ بعضهم ترك لبسها من خوارم المروءة لدى العلماء. قيل لأعرابي إنك تكثر لبس العمامة، فقال إن شيئًا فيه السمع والبصر، لجديرٌ أن يوقى من الحر والقر (= البرد). ويبدو أن لبسها كان لدور وظيفي، ثم لما فشا في طبقة العلماء صار رسما لهم. وهذا فقيه الأندلس ومحدثها يحيى بن يحيى الليثي ربما حسر عن رأسه وقال عن العمامة “هي لباس الناس في المشرق وعليه كان أمرهم في القديم”.
سألته عن سبب تركه للبسها، فقال لي: إنه لم يعتد عليها، وإنها تغمّه إذا لبسها.
اضطجع الشيخ على أحد الأرائك الواطئة في المجلس، فاتكأت بجانبه ولكن على الأرض، ووضعت جهاز التسجيل، وقبل أن يفكر في مراجعة قراره بادرته بسؤال آمن لا يشعره بجوّ المقابلة الرسمية
-
كيف كانت دراستك في المحاظر؟
“لم أدخل المحظرة!” فاجأني جوابه. ثم استأنف” تعلمت القرآن على أحد شيوخ القرية لكني لم أدخل المحظرة كما فعل أقراني.”
-
هل ضُربت على حفظ القرآن؟ سألته مبتسمًا كمن يتوقع فحوى الجواب.
كأنما عزفت على وتر مؤلم، فاندفع بلهجته الحسّانية وترك الفصحى قائلًا “أصل جبرت ياسر من البط!” (= لقد ضُربت كثيرًا)
شيء لم أفهمه عند كثير من معلمي القرآن، وهو أن القصد من الضرب ليس التأديب، وإنما الإيلام!
ثم عاد إلى الفصحى ليقول “لذلك لم أحفظ القرآن في الصغر، وإنما حفظته عندما كبرت”.
-
متى غادرت القرية؟
في عام 1978 ذهبت إلى نواكشوط للدراسة النظامية، دخلت إلى العاصمة، فأخذتني أضواء السينما!
-
كان عندكم سينما في ذلك الوقت؟ سألت مستغربًا.
“طبعًا، سينمات وليست سينما واحدة! في كل مقاطعة من مقاطعات نواكشوط كانت فيها سينما. أحببت مشاهدة الأفلام كانت بكل اللغات، وكان لدي صديق يعمل في حراسة إحدى قاعات السينما فكان يدخلني بدون مقابل في منتصف الليل”.
هل تركت السينما أثرًا في نفس الفتى ليفكر غدًا في نقل ثقافته بوسائل جديدة؟ هذا سؤال لم أتجرأ على طرحه. وقلت بدلًا منه:
-
كيف كان يقضي الفتى يومه في العاصمة؟
كنت أقضي سحابة يومي في المراكز الثقافية. افتتحت بعض الدول العربية مراكز ثقافية في موريتانيا مثل المركز الثقافي الليبي، والمركز الثقافي العراقي، والمركز الثقافي السوري، كانت مكتباتها عامرة بكتب الأدب. كنت آتيها صباحًا، وأخرج منها ليلا أطالع الدواوين، وكتب الأدب، والمجلات، وشاهدت فيها أفلامًا عراقية عن حرب إيران وحرب الخليج.. اتخذت دفترًا وصرت أملؤه من هذه المكتبات من شعر المتنبي والبحتري والمعري، كنت أعرف شعر العباسيين معرفة جيدة، وحفظت أنا وصديق لي ديوان أبي فراس الحمداني، كان كل هذا قبل البلوغ”.
-
أعلم أن الشناقطة يولدون وفي أفواههم بيت أو بيتان من معلقة جاهلية. ولكن ما سرّ اهتمامك المبكر بالأدب؟
“كان مجالا لأقراني، لدينا شيء نسميه ’الأعصار’ وهو الجيل من الأقران، يكون بيننا مكاتبات ورسائل قبل ثورة الاتصالات، نكتب فيها شيئًا من الإخوانيات، والتقارير ليعلم بعضنا بعضًا بالمناسبات والأحداث التي فاتته. إذا حضر أحدنا عرسًا في القرية، فعليه أن يكتب تقريرًا عنه لصاحبه الذي في المدينة. كنا نكتب تلك التقارير بلغة أدبية عالية، تفوق تقارير التلفزة اليوم!”
لم يكن النثر فحسب مجالك، بل كنتَ شاعرًا لا سيما في الشعر الحسّاني (اللهجة البيضانية).
“تفجرت قريحتي بالشعر اللهجي قبل الشعر الفصيح، وفي عام 1987 شاركتُ في مسابقة للشعر الشعبي وحزت المرتبة الثالثة، كنتُ أرى ملكتي في اللهجي أقوى من الفصيح، لأنها تتيح لي التعبير بدقة وهناك صور لا يمكنني التعبير عنها بالفصحى. على كل حال، جاءت الصحوة الإسلامية 1990 وسكتُّ عن الشعرين!”
قاطعتنا لميس ابنة قريبه ذات الأربع سنوات، جلست في حجره، وأمسكت بلحيته وهمست له بشيء لم أسمعه، تناول جهازه وأخذ يبحث عن شيء على اليوتيوب، ولميس تمشط لحيته الحمراء بأصابعها وتنتظر أن تفوز بساعة مع جهازه لتشاهد الرسوم الكرتونية.
يفشو الخضاب، وصبغ الشيب لدى أهل الحديث قديمًا وحديثًا، التزاما بحديث النبي صلى الله عليه وسلم. “غيروا الشيب وجنبوه السواد” ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب فقد توفي عليه الصلاة والسلام وفي لحيته دون عشرين شيبة، فإن الخضاب صار من علامات الاتباع وتحري السنة؛ قال صالح بن أحمد بن حنبل (ت 266هـ): “لمَّا مرض أَبي دخل عليه رجلٌ من جيرانِنا قد خَضَب فقال إني لأرى الرجل يُحيي شيئًا من السنة فأفرح به”؛ ولهذا يكثر ذكره في تراجم العلماء، فيقولون “كان يخضب، أو كان له شيبٌ يغيره بالخضاب”.
تنحت لميسُ بجهازه الذي تصدر منه أصوات الرسوم المتحركة جانبًا. فسألتُه: متى بدأ اهتمامك بعلم الحديث؟
“كان أحد أخوالي منشغلًا بعلم الحديث، وحين انتقلت إلى نواكشوط، سكنتُ في بيته واكتسبت منه حب الحديث وطريقة الطلب.
قرأتُ سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني في داره، وحين سافرتُ للعمرة اشتريت كل ما طبع للألباني من كتب في السعودية، ثم وصلني كتاب شرح النووي على مسلم من مصر، فقرأته كاملًا وتأثرت به.”
-
يبدو لي أن أكثر تحصيلك العلمي كان بالمطالعة لا بالتتلمذ على المشايخ.
“تتلمذت فترة من حياتي قرأت فيها الفقه والشعر الجاهلي، ولكن أكثر تحصيلي كان بالمطالعة”.
-
قد جربت الطريقين إذن، بمَ يمتاز كل نمط من الدراسة على الآخر؟
“الطالب المحظري أكثر استحضارا للنصوص من الطالب المطّلع، لكنه مع ذلك تكون عقليته التحليليّة وقدرته على المقارنة أضعف. أما المطالع فإنه أقدر على استثمار النصوص أفضل استثمار. وعيب المطالعة بعد صاحبها عن الاستدعاء والاستحضار..”
مع أنه لا يصنف نفسه طالبًا محظريا، فإن قدرته على الاستحضار والحفظ لافتة.
في مجلس سمرٍ سابق، تناولت من مكتبتي كتاب المفضليّات للمفضل الضبي الذي يحتوي على أقدم مختارات شعرية في تاريخنا الأدبي، وسألته وأنا أريد أن أظهر فضله لصديق لي -غفر الله لي سوء أدبي- وقلت له: عندي سؤال في معنى قول شاعر يصف فرسه:
كُميتٌ غير مُحلفةٍ ولكن ** كلون الصِّرْف عُلّ به الأديمُ
ما معنى غير محلفة؟
فقال: ألم يشرح معناه [عبد السلام] هارون و[أحمد] شاكر؟ [محققا الكتاب]؟
فقلت: لا -غفر الله لي مرة أخرى- قلت هذا وأصبعي على الهامش الشارح لمعنى البيت، مشيرًا لصاحبي بأنه سيأتي بالتعريف كما ورد.
فقال: أظن (والشنقيطي لاحتياطه يظنُ ولا يعتقد) أن معناها: أي خالصة اللون، لا يُحلف عليها أنها ليست كذلك، [هنا انتهى الهامش] يعني أن لونها لصفائه لا يُحْوِج الناظرين إليها إلى أن يختلفا عليه ويتحالفا”. كانت عينا صديقي تتسعان دهشة، والشيخ متكئٌ يحكي جوابه وهو يعبث بلحيته غير عابئٍ.
المتن العلميّ هو ملمح من ملامح عبقرية التأليف في العلوم الإسلامية. ينشأ العلم أول ما ينشأ من انعكاس أنوار الوحي على العقول المسلمة، فكل علم نشأ في الإسلام، فهو على اتصال بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تبيينًا أو تحصينًا.
يضع العالم مؤلفه، فتتناوله عقول العلماء بالشرح والاستدراك والاستشكال والتهذيب، ولا يزال ينتقل من طبقة إلى طبقة تعمل كل واحدة منها عملها في تنقيحه وتسديده وتنشأ شبكة من التآليف حوله، ثم تعود حركة البسط والتوسّع إلى حركة قبض وتلخيص حتى تنتهي إلى مختصر يكتنزُ رحيق التجارب، ونتاج العقول. وهكذا تولدُ المتون التي تُدرّسُ في التعليم التقليدي، ولتقريبها للحفظ غالبًا ما تُنظم هذه المتون النثريّة، وبحفظ الطالب لها يكون قد حفظ خلاصاتٍ ناضجة طبختها عقول الأمة على نار هادئة على امتداد القرون. وبهذا يتفوّق طلاب المدارس التقليديّة على المدارس العصريّة، التي لا عناية لها بصناعة الكتاب، أو حفظ المنهج.
تفطّن أحمد مزيد لمزيّة المتن العلميّ ومركزيّته في التعليم المحظريّ، فبادر إلى العمل على ضبطه أولًا بتحقيق ألفاظه حتى يسلم من التصحيف والأخطاء، ثم عمل على تصديره للعالم بنقل هذه المتون المحظرية على شبكة الإنترنت، ليكون متاحا لكل طلاب العلم.
-
أحسبُ أنك أول من رقمنَ المحظرة الشنقيطية، ورفع مقرراتها مضبوطة ومحققة ودروس شيوخها الشارحة لها على شبكة الإنترنت، حدثني عن بداياتك؟
“كانت الانطلاقة في عام 2004 مع موقع شذراتٍ شنقيطيّة، وقصته أني كنت أشارك في منتدى أهل الحديث، وكانت ترد أسئلة يطلب فيها أعضاء المنتدى أنظام الشناقطة ومؤلفاتهم وعلومهم. فقلت لنفسي: لماذا لا أقرب لهم المحظرة الشنقيطية برفع متونها وشروحها على موقع واحد، فكان [موقع] شذرات شنقيطية. ورفعتُ عليه دروس ومحاضرات كبار علماء شنقيط، مثل الشيخ محمد سالم ولد عبد الودود، والشيخ بدّاه البصيري مفتي الجمهورية، والشيخ محمد الحسن الددو. وقد رفعتُ دروس الددو قبل أن يكون له موقع خاص. وكنتُ أواجه تحديات تقنيّة؛ لرداءة الاتصال، فأحرص على رفع المحاضرات بأقل جودة. ثم في 2007 جربت الغرف الصوتيّة المسماة بـ”البال توك” واشترينا غرفة صوتية بسبعين دولارًا، وحولناها إلى محظرة رقميّة نشرح فيها المتون العلمية، حتى صارت جامعةً مصغّرة. ثم افتتحت موقع ظهور العيس وصرت أرفع عليه دروس الغرفة والمتون التي نشرحها”.
-
هذا شيء لا يعرف أهميّته جيل الألفية الذين لم يعرفوا الحياة إلا بوجود الإنترنت. إلى أيّ مدى وصل صدى عملك هذا؟
“أبعد خبر عن مستفيد وقتها، جاءني من أستراليا، سافر إليها أحد الشيوخ الشناقطة، وأرادوا أن يدرسوا عليه متنًا، فلم يجدوه متوفرًا إلا على موقعي! وأخبرني بقصة مشابهة شباب من جزر المالديف، أما استفادة طلاب العلم في أوروبا وأمريكا فكثيرة”.
-
هذه قصة الانتشار، فكيف كان عملك على تحقيق المتون وضبطها؟
“أظن أني حققت وضبطت أغلب المتون المحظرية والشعريّة، بما في ذلك ديوان الشعراء الجاهليين، كنتُ أطوفُ على شيوخ المحاظر لضبط نصوص المتون، ومن لم أصل إليه أوكل أحد طلابه أن يعرض عليه المتن كاملًا ليصححه وينفي خطأه ثم يعيده إليّ”.
لكنك لم تكتفِ بتحقيق المتون، بل انتقلت إلى تحقيق الكتب والمطولات.
“حققتُ مرتقى الأصول لابن عاصم ونشرته مع دراسة مفصلة، وحققت شرح الأعلم الشنتمري لديوان الستة الجاهليين، وحققت مجموع النوازل لابن بوي الولاتي، وكتاب العمل المشكور في نوازل علماء تكرور”.
-
على ذكر التكرور، هل تنقلت في أفريقيا؟
“عشت في السنغال فترة من عمري، كان والدي يملك دكانًا في السنغال، ثم جربت التجارة وفتحت دكانًا للمواد الغذائية هناك، وجبت غرب إفريقيا متاجرًا، وزرت مالي والنيجر وغينيا وسيراليون.”
تشابه البيئة في بساطتها مع عصر النبوة يؤذن بفهم أعمق للنصوص الشرعية. وفي عيشة أحمد مزيد في مجتمعات بسيطة وبدوية، استطاع أن ينضاف إليه فهمٌ لبعض الأحاديث النبويّة.
قال لي أحمد مزيد مرة وأنا أصنع له الأتاي الموريتاني في داري، وأعرض عليه بعض أحاديث صحيح البخاري، ووصلنا إلى حديث: “مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها (= انقلاعها) مرة واحدة”.
“سأشرح لك هذا المعنى شرحًا لن تجده عند غيري”
لم تكن نبرة القطع من عادته، ولكني تحمّست لسماع شرحه لهذا التشبيه للمنافق بشجرة الأرز، وكيف تسقط تلك الأشجار العملاقة دفعةً واحدةً.
“كنت في أيام الفتوة، أسكن السنغال، وكنت أقيلُ تحت شجرة ضخمة من شجر يسمى ’تبلدي’ هي أشبه شيءٍ بشجر الأرز في ضخامتها، فمرّ بي جماعةٌ من الزنوج، وقالوا لي لا تجلس تحت هذه الشجرة، فإنها ستسقط عن قريب، فلا تقتل نفسك بجلوسك تحتها!”
لم يصدق الفتى مقالتهم فهذه الشجرة المهيبة أرسى من الجبال. وجذورها ينبغي أن تكون قد بلغت الأرض السابعة!
“في اليوم الثاني جئت في وقت الظهيرة لأجلس مجلسي المعتاد. فلما وصلت وجدتُ الشجرة قد سقطت!”
انتظرت مرور الجماعة التي حذرتني، فلما لقيتهم، قالوا لي: إن بيوتنا قريبة من هنا، وجذور هذه الأشجار لا تكون عميقة، فأحسسنا بحركة في الأرض تحتنا قبل يومين، وقدّرنا أن الحشرات قد نخرت قلب الشجرة كما هي العادة في هذه الأشجار، وأنها آيلة للسقوط، فنبهناك.
فهذا أقرب مثال لفهم الحديث عن الانهيار المفاجئ لما يبدو لك راسخًا وهو خاوٍ من الداخل”
وكما يعين القرب من تفاصيل الحياة البدوية على تصوّر أفضل للنصوص القديمة، فإن البعد عنها يوقع الباحث في استشكالات لا أساس لها من الصحة. استشكل كثير من الباحثين حديث إرداف النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أجنبية (= حملها على راحلته معه) لتصوّرهم أن الإرداف يقتضي اختلاطًا أو تماسًّا. ولو رأى بعضهم طريقة الإرداف على الراحلة لذهب استشكالهم، وعلموا أن الإرداف يقع بدون تماس وبوجود حائل ومسافة بين الراكبين.
قال لي صديق من فلسطين ذهب للدراسة في المحاظر الشنقيطية: “كنتُ أستشكل حديثًا في البخاري: “كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا”؛ لأن هذا يقتضي تكشّف النساء، فلما رأيتُ بعض السيدات الموريتانيات يتوضأن فهمتُ الحديث، حيث يتوضأن بدون أن يكشفن أعضاء الوضوء كشفًا كاملًا، لطبيعة لباسهن الساتر (=الملاحف).
اقترب موعد العشاء، ورأيت الشيخ يتململ من الحديث عن نفسه، فسألته مختتمًا: أين وصلت ثنائية المحظرة والتقنية؟
“منذ عشر سنوات ليس لديّ مسجد أو معهد أدرّس فيه، وإنما محظرة إلكترونية”.
-
انتشرت اليوم المحاظر الإلكترونية، ولكن أحسبك كنت أول من افتتحها، أليس كذلك؟
“يمكنك أن تقول هذا. بقيت عشر سنوات لم يشاركني في هذا أحد، ثم بدأت تنتشر مؤخرًا، لكني افتتحت شيئًا جديدًا، صرت أعطي دوراتٍ تقنيّة، سميتها: التقنية في خدمة طالب العلم، آخرها كان في غامبيا.”
-
ما الذي تقدمه في هذه الدورات؟
“كل ما يحتاج له طالب العلم في التحصيل وما تقدمه التقنية من خدمات له: مثل دورة في المكتبة الشاملة وطرق الاستفادة منها، تحويل النصوص الصوتية إلى مكتوبة، مناجم البحث التي تحتوي على مخطوطات وبحوث، وما إليه”.
كأنه ذكره ذكر المخطوطات شيئًا، فقام إلى غرفته وعاد يحمل لي كتابًا ضخمًا، مجلد بطريقة أنيقة، كُتب عليه شرح ديوان الهذليين بشرح أبي سعيد السكري (ت 275 هـ) وكتب بخط أحمر تحت عنوانه “نسخة نفيسة عتيقة”. وقد ذيّل الغلاف باسمه بخط أخضر كبير. وقال وهو يمده إليّ “هذا هديتي إليك”.
فتحتُ الكتاب وإذا به مخطوط مصور واضح الخط، فلم يتركه يستقر في يدي حتى أخذه مرة ثانية وقال لي بحماسته التي تنتابه حين يتحدث عن الكتب: “شوف، هذا المخطوط في غاية النفاسة لأن ناسخه هو محمد بن علي العتابي (ت 556هـ) وقد قرأ الديوان على أبي منصور الجواليقي، وكان [أي العتابي] إمامًا في النحو واللغة، ومشهورًا بجودة الخط ثم إنه نقلها عن نسخة أبي الحسن السمسمي المشهور بالخط المتقن والتحقيق، وهي أيضًا مقابلة على نسخ جيّدة منها نسخة بخط الجواليقي وأخرى بخط الحُميديّ، أضف إلى ذلك أن عليها سماعُ مسند الشام أبي اليُمن الكندي” ثم أعاد إليّ الكتاب
فقلت وأنا أقلبُ صفحاته: ما أثمنها من هديّة! وما أجمل هذا الغلاف المبتكر!”
“أبشرك فقد تعلمتُ تجليد الكُتب، حضرتُ دورة قبل أشهر لتعلم التجليد عند مختص عراقيّ. وقد انتفعت بها كثيرًا. ولا أخفيك فربما كنتُ متأثرًا بابن عاصم الغرناطي الذي حققت منظومته في الأصول، وقد كان يعمل في تسفير الكتب (= أي جعلها أسفارًا وتجليدها)” قال هذا وهو يبتسم ابتسامةً عريضة.
جاء قريب الشيخ مؤهِّلًا ومسهِّلًا وهو يحملُ صحنًا صغيرًا عليه كأسان من الأتايَ المعتّق، وجلس إلينا، فمال بنا المجلس إلى أحاديث في مواضيع أخرى.